خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

التطرف الديني بوصفه نمطا من أنماط الحياة

ما هو جوهر حياتنا؟ كان لدى فيتغنشتاين تفسير عميق في هذا الصدد، حيث يقول إن الذنب والمسؤولية قيمتان متأصلتان في سياق تفاعلاتنا اليومية بعضها ببعض، ويلقب سياقه ذلك باسم «نمط من أنماط الحياة».
كتب روبرت ميريل رواية في عام 1952 بعنوان «الموت تجارتي».
وتحولت تلك الرواية في عام 1977 إلى فيلم في ألمانيا (ألمانيا الغربية في ذلك الوقت) بعنوان (Aus einem deutschen Leben) وتعني «من الحياة الألمانية»، وأخرج الفيلم المخرج تيودور كوتوللا.
يتحدث ميرل في تلك الرواية حول شخصية تدعى السيد مايستر، ويرى أنه:
بالنسبة لي، كانت هناك كنيسة واحدة فقط، وظلت طوال الحياة ألمانية! وبعبارة أخرى، وبناء على الفكرة والشعار، فإن ألمانيا هي الكنيسة. مما يعني أنها مصدر الشرعية الوحيد، ومن هذه السبيل، يمكنهم تبرير أي سلوك وتصرف من أجل ألمانيا. وتحولت تلك الفكرة إلى جوهر النازية. وقبل عصر هتلر، قال نابليون بونابرت ذات مرة إن كلمة «محال» ليست من مفردات قاموسه. وكرر هتلر ذلك الاقتباس، وقال ليس لدينا كلمة «استحالة» في لغتنا الألمانية. وهكذا فعلوا ما فعلوه. وكانت تلك هي النظرية المؤصلة للمحرقة النازية الشهيرة.
يعد الفعل «يبرر» من الكلمات الغنية للغاية. وهذا يعني أن كل إنسان يحاول تبرير آيديولوجيته أو استراتيجيته، يعتقد أنه على الطريق الصحيح، وأن الآخرين يسيرون في الاتجاه المعاكس. حينما تتحول الفكرة إلى عقيدة، وبالأخص العقيدة الدينية، فإنها تكون أصلا في العديد من الكوارث. أعني عندما تترجم الفكرة إلى إيمان، فسوف تصير خطة لمجموعة من التصرفات.
قبل أكثر من قرن مضى، نشر العلامة نائيني، وهو عالم وفقيه إيراني كبير، كتابا حول نظرية الثورة الدستورية في إيران. وقد ذكر بمنتهى الصراحة في كتابه: «إن الاستبداد الديني هو أخطر أنواع الاستبداد قاطبة. وحيث إن الناس تتقبل ذلك النوع من الاستبداد، فسوف يدافعون عنه بدموع أعينهم، ودماء عروقهم، وأموالهم»!
إنهم يظنون أن ذلك الاستبداد هو مصيرهم المقدس. وكما كتب الروائي موراكامي في روايته الأخيرة (Colorless Tsukura Tazaki)، كان عليه أن يتقبل نزع أظافر قدميه أو يديه! دعوني أقتبس لكم شيئا من كلمات موراكامي:
«لديّ بعض الأخبار الطيبة لك، وبعض الأخبار السيئة كذلك. وآتيك بالأخبار السيئة أولا، سوف ينبغي علينا نزع إما أظافر يديك أو أظافر قدميك بالكماشة. أعتذر إليك، ولكن القرار اتخذ بالفعل. ولا يمكن تغييره. ثم أخرجت من حقيبتي كماشة ضخمة وكبيرة ومخيفة وعرضتها أمام الجميع. وتيقنت، بتأنٍ شديد، من أن الجميع قد ألقوا عليها نظرة جيدة. ثم استطردت قائلا: إليك الأخبار السارة. لديك الحرية في أن تختار أيهما تشاء: أنقتلع أظافر يديك أم أظافر قدميك. وإذا كنت عاجزا عن الاختيار، فسوف نقتلع كل أظافرك.. فقلت، مرحبا بالعالم الحقيقي». (موراكامي، الصفحة 167).
إذا ما أردنا الحياة في العالم الحقيقي ووفقا لنظرية المتطرفين، فينبغي علينا تبني هوية جديدة ونتحول إلى رجال جدد أو نساء جديدات في العالم الحقيقي الجديد. حوّل ضابط الاستخبارات الألماني رودولف هوس، مؤسس ومدير معسكر اعتقال أوشفيتز، هويته من مزارع بسيط إلى ضابط متوحش، فقد كان الموت مهنته. وتوضح رواية السيرة الذاتية «الموت تجارتي» من تأليف روبرت ميريل، كيف تحولت هوية رودولف هوس. عندما سألته زوجته: لماذا تخنق أطفال اليهود؟ فأجابها: يتوجب عليّ خنقهم، إنني جندي ويتعين عليّ الانصياع للأوامر دون تردد أو شك. إن هويتي، ومعنى حياتي في طاعة الأوامر. وحينما سألته زوجته: ماذا لو أمروك بأن تخنق فرانز، طفله البالغ من العمر أربعة أعوام، فهل سوف تطيع مثل ذلك الأمر؟ فقال: أجل.
دعوني أنتقل إلى قطع رؤوس الضحايا من قبل تنظيم «داعش» في العراق. تلك الهمجية ما هي إلا راية من رايات العالم الحقيقي في تنظيم «داعش». فلقد صار الموت مهنة الآن، بالسكين الحديث. ذلك هو العالم الحقيقي مهاجرا ومتجسدا من هوليوود إلى العراق وأفغانستان.
كان المتطرفون المرتبطون بتنظيم «داعش» يخططون لقطع رأس مواطن من الجمهور في أستراليا، على حد تصريحات السيد توني أبوت رئيس الوزراء الأسترالي يوم الخميس 18 سبتمبر (أيلول)، إثر مئات المداهمات المنزلية التي نفذتها الشرطة في عملية موسعة لمكافحة الإرهاب. وقال أبوت إنه «كان هناك خطر حقيقي وجدي من هجوم إرهابي محتمل» بعد أيام من رفع أستراليا مستوى التهديد الإرهابي الوطني إلى درجة «مرتفع» للمرة الأولى، في إشارة إلى احتمال وقوع هجمات من قبل متطرفين أستراليين في العراق وسوريا.
وكان أعضاء التنظيم الإرهابي قد خططوا لتنفيذ قطع علني للرأس، وشملت الخطط خطف شخص بصورة عشوائية في مدينة سيدني، أكبر مدن أستراليا، وقطع رأسه أمام الكاميرا التي تعكس رايات الجماعة السوداء. إن العالم الذي نحيا فيه الآن عالم غريب حقا.
لسنوات عديدة، ظلت هوليوود وأتباعها في جميع أنحاء العالم تستخدم القتل والعنف – بما في ذلك الجنس – كأصل لأفلامها ومسلسلاتها التلفزيونية. والبطل هو رجل ذو قوة خارقة مثل رامبو، يمكنه قتل الناس بسهولة. وهو نفسه القاضي، وهو أيضا العدو، وهو القاتل. هناك أعمال ضخمة خلف ذلك النوع من الأفلام، فالموت تجارتهم كما أشار روبرت ميريل.
إن ما نعاينه الآن في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وحتى في أستراليا، ما هو إلا امتداد لهوليوود الأميركية.
ما ذلك إلا سرطان، وينبغي علينا التفكير في علاج. إن الحكومات في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، أو في غيرهما من المناطق الأخرى قد تنشب بينها بعض الخلافات أو تثور بعض الصراعات الخطيرة، ولكن في هذا الوقت ينبغي عليهم التوحد في مواجهة «داعش». من أجل الإسلام، ومن أجل المسلمين، ومن أجل البشرية برمتها يجب عليهم التوحد.
نشهد في هذه الأيام تدمير سوريا، وليبيا، والعراق، نتيجة لمثل تلك الهمجية البغيضة باسم الإسلام. وأعتقد أن الجرح الروحي هو أعمق أثرا من أطلال المدن.