سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وماذا عن الأمم المتحدة: مخبز في نيويورك

لم يؤدِ حظر النفط إلى ضغط سياسي على قرارات الأمم المتحدة فقط، بل إلى تغير مقاييس الثروة العربية. عام 1974 بلغت العائدات 70 مليار دولار، فيما انصرفت المنظمة الدولية إلى متاهاتها ومتاعبها. إخفاقاتها ونجاحاتها. العالم يتغير وكل خطاب يُلقى يضم تكرارا كلمة «الإمبريالية» أو «الاستعمار». وزير التغذية الهندي اتَّهم الإمبريالية الأميركية بمجاعات العالم الثالث، وطالب «بتعويضات» لا بمساعدات. والسلطنات التي كانت تعزف النشيد الإمبراطوري للمعتمد السياسي البريطاني اتحدت في دولة شيوعية ترفع علما شبيها بعلم الاتحاد السوفياتي الشقيق، رفيقنا في النضال الماركسي - اللينيني لرمي الرأسمالية في مزبلة التاريخ.
عندما كنت ألتقي زعماء عدن في الأمم المتحدة، كنت أرى فيهم رجالا هادئين وعاقلين، مثل ياسين نعمان، آخر رافع للعلم الاشتراكي في الجزيرة العربية وما حولها، أو مثل الصديق الراحل عبد الله الأشطل، الذي كان مندوب اليمن الجنوبي هنا. فلما اتحد اليمنان، صار مندوبهما. ولما تحاربا، ظل أيضا. وقبل ذلك تذابح الرفاق في عدن، وظل هو مندوب الجميع. وعلَّق يوما على ما أكتبه عن صراعات الجنوب ضاحكا: «الناس تتقاتل وأخونا سمير يكتب عن أيام رامبو في عدن». وقلت له: «علّمتنا فتعلَّمنا». وبقي يضحك.
ربما أستطيع قول ذلك الآن، فبعض الذين تعرفت إليهم هنا كان يعجب المرء أن يكونوا جزءا من الأنظمة والسياسات التي يمثلونها. سعدون حمادي، الشديد الهدوء، يوم كان وزير خارجية العراق. وطارق عزيز، الواسع المعرفة. وعلي عبد السلام التريكي، الذي كان واعيا بوضوح لمن هو الأخ القائد. ومنصور الكيخيا، الذي كان في منتهى الرقي يوم حضر وزيرا لخارجية معمر القذافي. ولم أتردد لحظة في إحراج الراحل شكري غانم عندما رأيته في لندن مع بعض الأصدقاء، إذ قلت له: «كيف لرجل عاقل مثلك أن يعمل لرجل مثله؟». وضحك وأشاح بوجهه على أنه لم يسمع ما قلت.
كان مندوب العراق لفترة هنا صلاح عمر العلي. وكان مثال العراقي الآخر، العراقي الباسم، حسن المعشر، من قلب النظام لكن ليس من قلب الحدة. وذات عام عدت إلى الجمعية العامة فرأيت مندوبا عراقيا آخر، فسألت عن العلي، فقيل إن صدام أبعده ويخشى العودة، ولذلك شارك في شراء مخبز لكي يعيش منه. لم يكن الرفاق - والأقرباء - يعرفون متى يحل الغضب. صلاح العلي كان حسن الحظ لأن الفقر وحده حل عليه، مثل عدد كبير من الرفاق.
إلى اللقاء..