خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

كل من يسوقه حليبه

صدر تقرير علمي في بريطانيا مؤخرا يسجل هذه الظاهرة التربوية وهي أن الوليد عندما يفتح عينيه لأول مرة في حياته وينظر، يبقى طوال حياته متعلقا بالوجه الذي صادفه ورآه عند تلك النظرة. والمعتاد أن يكون ذلك الوجه وجه أمه. وهو سر تعلقنا بأمهاتنا. كثيرا ما نختار زوجة يشبه وجهها وجه أمنا. وأنا شخصيا لم أشعر بالتيهان والضياع كما شعرت بعد وفاة والدتي رحمها الله. كنت كلما أعتز بإنجاز أحققه أسرع لأبشرها به. في حادثة دهس أدت لمقتل رجل في الشارع سأل القاضي السائق عن آخر كلمات قالها المدهوس قبل لفظ آخر أنفاسه فأجابه قال: «أريد ماما!».
وكان أن حملني هذا التقرير إلى الاعتقاد بأن جل هؤلاء الشبان العراقيين الذين التحقوا بـ«داعش» و«النصرة» وسواهما من المنظمات الإرهابية ربما ولدت أمهاتهم في زمن صدام حسين وكان وجهه أول وجه رأوه على التلفزيون وهو يزبد ويهدد فانطبعوا على سريرته وتعطشوا لقتل الأبرياء وسفك الدماء.
وكان مما قاله العلماء في ذات التقرير إن انفصال الابن عن صاحبة، أو صاحب، ذلك الوجه الذي رآه لأول مرة يسبب له ارتباكا في حياته وسلوكه ونفسيته. وهو بالضبط ما يشعر به هؤلاء الشبان التائهون والضالون، أيتام صدام.
وبعين الوقت صدر تقرير من أميركا هز الأوساط التربوية والصحية هناك. يفيد بأن مواهب الشخص وذكاءه يتوقف على التغذية التي تلقاها في الأشهر الثلاثة الأولى بعد ولادته، أي على الفيتامينات والحديد والمركبات الأخرى التي احتواها حليبه. فعليها يتوقف نشوء ونمو الاتصالات الدماغية التي تقرر مصير الإنسان العقلي والعلمي والنفسي وكل شيء. أتذكر أن العلماء كانوا يحددون هذه الفترة بالـ10 أشهر الأولى، ولكنهم قلصوها في هذا التقرير لـ3 أشهر.
في كلتا الحالتين جن جنون الأمهات الأميركيات في ضمان وجود هذه المواد في الحليب الذي يرضعه الطفل. تركن أثداءهن واستبدلن بها قنينة الحليب الصناعي حيث يمكن إضافة هذه المواد إليه. وراحت شركات مساحيق الألبان تتنافس في الادعاءات بما في بضاعتها من ذكاء ومواهب. ويبدو لي أن الحليب الذي رضعه جورج بوش كان فيه فائض من فلزات المنغنيز فأعطته روح التهور والطيش.
الحقيقة أن تراثنا الشعبي يتضمن التأكيد على أهمية الحليب الذي يرضعه الطفل. كانوا يسلمونه لمرضعة في البادية ليضمنوا تغذيته بحليب نوعي. هكذا أشارت المطربة سليمة مراد لهذا الاعتقاد في أغانيها:
الهجر مو عادة غريبة لا ولا منك عجيبة
هذا طبعك من عرفتك كل من يسوقه حليبه
لكلا التقريرين أهمية كبرى بالنسبة لمستقبلنا. فهذا التشرد الذي تعرضت له كثير من بلداننا، فلسطين وسوريا واليمن، كثيرا ما يحرم الولد من الحنان والدفء الذي ينتظره من الوجه الأول، الأم. كما أن سوء تغذية الأم يؤدي إلى سوء حليبها، وبالتالي حرمان الرضيع من المواد الأساسية اللازمة لنمو ملكاته فنبتلى بـ«داعش» وأنصاره.