إميل أمين
كاتب مصري
TT

السلام.. وإشكالية اجتياز دروب التاريخ

هل من مكان للسلام حول العالم في ظل قرع طبول الحرب التي تصدّع الرؤوس من حولنا؟ المؤكد أن الحديث في هذه الآونة عن السلام يعد عند الكثير من المراقبين لحالة السلم الدولي ضربا من ضروب اليوتوبيا، حيث المدينة الفاضلة وحدها هي التي تخلو من الحروب ويعم فيها السلام، هناك حيث الوفاق خيار محبّب والفراق اختيار غير مطروح.
غير أنه هناك على الأرض بعد «رُكَب لم تجثُ للبعل»، بعل الحروب وأساطين المجمعات الصناعية العسكرية، عشاق الحروب في الحال والاستقبال.
من بين هؤلاء اليوتوبيين - إن جاز التعبير، يأتي الحديث عن جماعة سانت إيجيديو، الكاثوليكية الهوية، العالمية التوجه، التي جعلت من حضورها منذ نهاية ستينات القرن الماضي وحتى الساعة، علامة للسلام الحقيقي، وأداة لفض الكثير من المنازعات الدولية، لا سيما بعد أن أضحت قناة دبلوماسية وسياسية خلفية لحاضرة الفاتيكان وبرعت في تقديم لون من ألوان ما يمكن أن نطلق عليه «الدبلوماسية الصامتة».
من السابع وحتى التاسع من سبتمبر (أيلول) الحالي، شهدت إيبارشية «أنتويرب» في بلجيكا اللقاء الدولي السنوي للجماعة، الذي جاء هذا العام تحت عنوان «السلام هو المستقبل: ديانات وثقافات في حوار بعد مضي 100 عام على الحرب العالمية الأولى».
هل للعنوان رمزية ما؟ بالقطع نعم، لا سيما في تركيزه على الحوار والجوار بين الأديان والثقافات؛ فلا دين من دون ثقافة وخلفية فكرية حضارية، ولا ثقافة من دون وعي إيماني ديني إنساني خلاق، وخلاص البشرية من الحروب لن يتأتى إلا إذا تصالحت الثقافات البشرية، من خلال عالم يمتلئ بالأشخاص أصحاب الإرادة الطيبة من أتباع الأديان كافة، عالم متضامن تنمو فيه ثقافة التسامح والحياة، ويغيب عنه «البرابرة الجدد»، عالم نباعد فيه بيننا وبين الخوف من البرابرة، الذي يمكن أن يحولنا جميعا عند نقطة معينة من التاريخ إلى برابرة بدرجة أو بأخرى. هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن ينعقد مؤتمر سانت إيجيديو لهذا العام، في توقيت مواكب للاجتماعات التي تجري في الشرق الأوسط وفي أوروبا على قدم وساق من أجل الإعداد لحرب بعينها؟
اجتماع ثلاثمائة من رجال الدين والسياسيين والمثقفين والأكاديميين، مسلمين ويهودا ومسيحيين، من جميع بلاد العالم، وشراكتهم الإنسانية طوال 3 أيام في عيش مشترك واحد، وبحثهم عن ما ينفع ويرفع من شأن الإنسان، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه - أمر يفيد بأن هناك تجمعا لـ«مشعلي المصابيح» في تلك البقعة من العالم.
يضيق المسطح المتاح للمقال عن تحليل ومناقشة الكلمات كافة، أو إلقاء الضوء على جلسات الحوار والعمل المشترك، غير أن مظلة السلام جمعت في ظلها الظليل أحاديث عن العداوات المستحدثة، وجرائم العنف والكراهية، التي ما كان لها أن تكون في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عطفا على مناقشة مكافحة الفقر، والجهل، والمرض، والقضاء عليهم عبر منظومة التنمية المستدامة.
جاء مؤتمر سانت إيجيديو الثامن والعشرون ليذكر بأنه بعد 100 عام من الحرب الكونية الأولى، لا يزال الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان - كما قال هوبز ذات مرة، وربما تؤكد الصراعات الدموية الجارية حول البسيطة اليوم أن الآخرين هم الجحيم، على حد وصف جان بول سارتر.
في رسالته إلى المطران يوهان جوزيف بوني، أسقف إيبارشية أنتويرب، بمناسبة المؤتمر، كتب البابا فرنسيس الأول يقول: «إن الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى، واختيار الذكرى عينها موضوعا لهذا العام - لهو أمر يوحي بمستقبل يساعد فيه الاحترام المتبادل والحوار والتعاون في إبعاد شبح النزاع المسلح، لا سيما أن شعوبا ليست بقليلة تحتاج في أيامنا هذه للمساعدة في إيجاد درب السلام».
هل من حقيقة مرة كشفها مؤتمر سانت إيجيديو الأخير؟
الثابت أنه إذا فكرنا في النزاعات والحروب التي لا تحصى، المعلنة وغير المعلنة، والتي تعانيها اليوم العائلة البشرية وتهدم حياة الشباب والمسنين، وتسمم علاقات التعايش بين جماعات عرقية ودينية متعددة - يبدو جليا أنه، ومع جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة، لا نستطيع الوقوف موقف اللامبالاة أمام آلام كثيرة.
أغلب الظن أيضا أن المؤتمر جاء ليعطي دفعة في درب «شجاعة الأمل» الضرورية للبحث عن السلام، في هذه الأوقات العصيبة التي يستعلن فيها سر الإثم أمام سر البعث والرجاء، وخاصة بعد أن باتت أجزاء كثيرة من العالم تفتقر إلى الأمل الضروري لامتلاك الشجاعة.
خلاصات الأيام الثلاثة تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن الأديان ينبغي أن تعزز إسهاماتها في بناء السلام، عبر استثمار الثقافة والقيم والتربية، وتلفت أيضا إلى أن الأديان، ورغم اختلافها، إنما تحمل رسالة مشتركة واحدة تقضي بـ«جعل البشر يفهمون أنه محكوم عليهم بالتعاون في سبيل البقاء على قيد الحياة، وأن علاقة بعضهم مع بعض ليست خيارا يتخذ أو يرفض، بل ضرورة لا بد من إدراكها».
هل حان الوقت ليتعاون كل القادة الروحيين من الأديان الإلهية كافة، وأصحاب النواميس الوضعية لتضميد الجراح وحل النزاعات والبحث عن السلام؟
يخبرنا عالم الدين الكاتالوني الشهير أرماند يويغ بأنه «لا يمكن تبرير العنف أبدا، لذلك يحتاج دوما إلى التبريرات، لكن في المقابل لا يحتاج السلام إلى تبرير ذاته، وعليه يجب ألا يطلب الإذن لاجتياز دروب التاريخ».