سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

وماذا عن الأمم المتحدة: الفودكا والحذاء

أوصلت الأمم المتحدة الصوت العربي إلى كل مكان، وبقي الحق العربي ضائعا في الأروقة. اخترق ياسر عرفات الحصار الكبير عام 1974 ودخل نيويورك، ووقف أمام المنصة الرخامية الخضراء، يعرض المسدس بيد وغصن الزيتون بالأخرى. وقبل عامين، قال السياسي الفلسطيني نبيل شعث لمجلة «اليمامة» إنه هو الذي كتب ذلك الخطاب بحرفيته. في حين كان لدينا انطباع أن أبو عمار يستشير في خطبه، خصوصا التاريخية، أكثر من شخص.
قبل «كوفية» أبو عمار الشهيرة، بعقود، وقف رئيس وزراء سوريا فارس الخوري، في القاعة نفسها بطربوشه، الشهير أيضا بضخامته. كانت سوريا لا تزال تحت الانتداب الفرنسي. دخل الخوري قاعة الجمعية العامة واتجه إلى مقعد مندوب فرنسا وجلس عليه. وصل المندوب الفرنسي فامتعض، وقال لفارس بك: هذا مقعدي. لم يجب. كرر المندوب الفرنسي قوله مرات عدة إلى أن مضت 25 دقيقة، عندها قام فارس الخوري عن المقعد قائلا: «بلادك تحتل أرضي منذ 25 عاما وأنت يضايقك أن أحتل مقعدك 25 دقيقة»!
بالغ البعض في استغلال هذا المنبر الأممي. لعل أشهر لحظة «خطابية» كانت يوم ضرب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف بحذائه على الطاولة أمامه. وأوفى ما قرأته عن تلك الحادثة هو ما أدلى به مندوب العراق آنذاك الدكتور عدنان الباجه جي إلى «الشرق الأوسط» (2010). قال: «كان أعضاء الأمم المتحدة يواصلون نقاشاتهم، وبينهم نهرو وتيتو وعبد الناصر، عندما ارتفع فجأة صوت خروشوف، وراح يضرب الطاولة بحذائه. قبل ذلك بقليل، كنت إلى مائدته مع بقية المدعوين في البعثة السوفياتية، فراح خروشوف يشرب كأس فودكا بعد الآخر نخب كل ضيف مدعو، فما إن انتهى الغداء إلا وكان قد عبَّ كثيرا. بعدها، توجهنا إلى الجمعية العامة، ولا بد أن الرجل كان مخمورا. وفيما هو ينفعل، رأيتُ وزير خارجيته أندريه غروميكو، ينكمش على نفسه خجلا». دفع خروشوف الثمن غاليا فيما بعد عندما أُبعد عن الحكم. وألغي اسمه من كل ذكر على الطريقة السوفياتية، فكأنه لم ينوجد. وكان هو ألغى ذكر ستالين وحوَّله إلى «لا أحد».
عدنان الباجه جي كان من أبرز الخطباء العرب في المنظمة. أتقن اللغة الإنجليزية كما أتقن أحمد بن هيما اللغة الفرنسية. وكان يقال إن بن هيما يتقن اللغة أكثر من المندوب الفرنسي نفسه. وفي الحلبة الخطابية، تفوَّق العرب على مندوبي إسرائيل، الذين أساءوا الإلقاء واللفظ، فيما عدا أبا إيبان الذي كان يتكلم الإنجليزية بلهجة أكسفورد وطلاقتها. وقد قضى أواخر عمره منبوذا في إسرائيل بسبب تغير موقفه من القضية الفلسطينية.
إلى اللقاء..