د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

العرب والمستقبل: أية علاقة؟

إن التحكم في الأبعاد الثلاثة للعلاقة بالزمن المتمثلة في الماضي والحاضر والمستقبل مسألة أساسيّة وفي ضوئها يتمّ تحديد الخصائص الثقافيّة للمجتمع وآفاقه وأنماط علاقاته بكل من الماضي والحاضر والمستقبل. والملاحظ أن أي خلل يطرأ على تصور المجتمعات للأبعاد الزمنية الثلاثة، تنتج عنه آليا تداعيات، ربما يصعب معاينتها بشكل محسوس ومرئي ولكنها تفعل فعلها في المعيش الاجتماعي وتشكله بطريقة مُخلة.
فالعلاقة مع الزمن من المفاتيح المهمة في فهم المجتمعات، باعتبار أن تلك العلاقة ذاتها هي حاملة لثقافة المجتمع وخبراته المتراكمة، وتمثل تعبيرا دقيقا عن انصهار مختلف العناصر المكونة للبنية الثقافية للمجتمع.
إن الذي قادنا إلى طرح علاقة مجتمعاتنا العربية بالزمن وتحديدا العلاقة بالمستقبل هو موضوع النّدوة التي تنظمها المنظمة العربية للتّربية والثقافة والعلوم (الألكسو) في بداية الأسبوع القادم بتونس، حيث سيتم تناول حال الدراسات المستقبليّة في العالم العربي ومآلها. وهو كما يبدو من المواضيع العالية الأهمية ويُطرح في لحظة ثقافيّة سياسيّة تاريخية عربية، يُوجه فيها كل التركيز نحو الماضي والحاضر، في حين أن إهمال العرب للمستقبل البعد الثالث في العلاقة بالزمن ما فتئ يشكل خاصية بارزة ومتجذرة، بدليل أنه قلما يطرح العرب موضوع المستقبل. ويتميز تواتر كلمة «المستقبل» في المعجم اللغوي اليومي للمجتمعات العربية بالندرة مقارنة بكثافة تواتر مفهومي الماضي والحاضر.
ويمكن القول بناء على ما ذهبنا إليه إن علاقة العرب بالزمن تنطوي على خلل واضح، فهي علاقة ترتكز أولا على بعد الماضي ثم بدرجة أقل الحاضر وبدرجة أقل بكثير على المستقبل؛ فمثلا ما يسمى الحركات السلفيّة ودعاة الانغلاق والأصولية وغير ذلك من التعبيرات الأكثر رواجا اليوم في الخطابين الثقافي والإعلامي، نلاحظ أنها من إفرازات العقل الماضوي: العقل الذي يفكر في الماضي ويسير على إيقاع أفكار منتجة في الماضي ويقوم مشروعه على ضرورة استعادة الماضي.
وفي هذا السياق، تندرج ظاهرة تمجيد الأمس والنظرة الإيجابية الخالصة للماضي في غالبية التمثلات العربية: الأمس أفضل من اليوم والحنين يكاد يحكم علاقتنا بالماضي التي يعبر عنها بالذاكرة الفردية والأخرى الجماعية.
أما العلاقة بالحاضر، فكانت في أغلب المراحل التاريخية محلّ التباس وغموض. وفي القرون التي تلت عصور الازدهار العربي إلى اليوم، يهيمن التوتر على علاقة البلدان العربية بالحاضر، لأن الحاضر كلحظة مواجهة مباشرة، كثيرا ما تضعنا أمام المرآة: بلدان عاشت الاستعمار وخاضت بعد الاستقلال مغامرة التنمية بتصورات عرجاء وأحيانا مغلوطة والنتيجة كما نعيشها اغتراب واستلاب وتوتر مع الذات والآخر. والمشكلة الكبيرة أن الشباب العربي عوضا أن يمثل طاقة التغيير الاجتماعي أصبح البعض منه عبارة عن قنبلة موقوتة، ما إن تظهر جماعة من كهف الماضي حتى يرتمي في أحضانها هاربا وباحثا عن نوع من الغيبوبة تنسيه مرارة اللحظة التاريخية العربية وتخبطها بين متناقضات عاصفة.
إذن ما ينقص الثقافة العربية الرّاهنة هو تغذيتها بمفهوم المستقبل وذلك باعتباره البعد المُحفز للحياة والحلم. وهنا يمكننا أن نستحضر مقولة معبرة جدا أوردها المؤرخ المفكر الراحل قسطنطين زريق في كتابه «نحن والتاريخ»، يميز فها بين ما سماه «تاريخ العبء» والتاريخ «الحافز». أي أن العرب مدعوون اليوم إلى البحث عن التاريخ الحافز في تاريخهم المليء بأسباب التحفيز والدفع إلى الأمام والمستقبل، تماما كما هو تاريخ لا يخلو من أعباء ثقيلة. ولكن قوة المجتمعات تكمن في قدرتها على التركيز على الجوانب المُحفزة لتقدير الذات الجماعية وفي التعامل مع العبء، كمادة للمراجعة وللنقد الذاتي البناء. لذلك، فإن المشكل يتمثل أولا وأساسا في كيفية قراءة الماضي والتاريخ وأيضا الدين، لأن أي قراءة سلفية متشددة للنص القرآني، ستنعكس أيضا على طبيعة الثقافة، إذ الدين مكون قوي من مكونات الثقافة وهو صانع أساسي للبنية الثقافية، وهو ما يعني أن طبيعة العلاقة بالدين تؤثر على مضمون العلاقة مع الأبعاد الثلاثة للزمن.
من جهة أخرى يبدو لنا أن ما تحتاجه النخب العربية الحاكمة اليوم هو بناء علاقة علميّة مع المستقبل. فالصلة بين التنمية والمستقبل قوية. ومن غير الممكن التعامل مع المستقبل بشكل سليم، إلا من خلال الاستشراف القائم على الدراسات العلمية وعلى لغة الأرقام والنسب والمعطيات الكميّة والمنجز والناقص. أي على أدوات القياس العلميّة وساعتها يمكن الحديث عن دولة ومخططات تنموية وعن مؤسسات يديرها تكنوقراط.
أما التخبط في السياسات الرعوانية ودفع أموال طائلة في مشاريع غير مدروسة ولم تخضع لدراسة جدوى محكمة وعلمية والارتهان إلى مبدأ المدى القصر لن يقوي علاقتنا بالمستقبل التي يجب أن تكون مزيجا تفاعليا من الاستشراف العلمي والحلم المشروع والمباح.
طبعا لا نستطيع أن نتحدث عن علم المستقبل والدراسات الاستشرافية دون توجيه تحيّة إلى روح العالم المفكر المهدي المنجرة الذي رحل عنا في يونيو (حزيران) الماضي.
فهل يُصلح العرب علاقتهم بالمستقبل، كفضاء لإبداع العقل البشري وإظهار قوة إراداته وتحكمه في المستقبل؟