د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الحرب ضد «داعش»؟!

أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، الأسبوع الماضي، شن الحرب على التنظيم الإرهابي المسمى «داعش» بالتحالف مع 9 دول أخرى، وفي الوقت نفسه كانت المملكة العربية السعودية تعقد مؤتمرا في جدة لبناء تحالف إقليمي دولي إضافي لمواجهة الإرهاب. في الحالتين فإن الهدف الاستراتيجي للحرب هو القضاء على سرطان ألمّ بمنطقتنا والعالم على مدى العقود الـ4 الماضية، وتسبب في إنهاك قواها، وأساء إلى الدين الإسلامي بأكثر مما فعل أعتى أعدائه. وأخيرا، فإن المجتمع الدولي يعود مرة أخرى لتقاليد مواجهة الفاشية بالطريقة التي تستحقها، وهي استخدام القوة المسلحة من خلال تحالف يجمع القادرين بالإمكانيات والإرادة، كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، وكما جرى أثناء حرب تحرير الكويت.
وهذه المرة، فإن الحرب لن تكون على دولة، كما حدث مع ألمانيا وإيطاليا واليابان والعراق، وإنما على تنظيم تشعبت فروعه، وتعددت أشكال ظهوره، حتى جاء أخيرا من جوف تنظيمات تبدأ بالإخوان المسلمين وتنتهي بـ«القاعدة».
السؤال الآن ليس عما إذا كان النصر في هذه الحرب ممكنا أو مضمونا؛ فتوازن القوى والقدرات لا يسمح بشك في الموضوع، وإنما عن أسباب تأخر المواجهة حتى الآن مما جعل التكلفة باهظة والثمن عاليا، والإجابة أو محاولة الإجابة هي أن اختلاط المفاهيم، وعدم الوضوح، والعجز عن التواصل، وأمورا كثيرة في التاريخ بين الغرب من ناحية والدول العربية والإسلامية من ناحية أخرى، جعلت الوصول إلى النقطة التي وصلنا إليها صعبا ومرهقا.
ومن عجب أن يكون جزء كبير من المشكلة هو التعامل مع مفهوم «الإرهاب»، حينما خلط العرب بينه وبين «المقاومة»، وجرى استحضار التاريخ لكي يعقّد المعقّد. وببساطة، جرى خلط المفهوم مع القضية الفلسطينية حتى بات مستحيلا تكوين مفهوم مشترك بين العرب والغرب، رغم الصلات الوثيقة بينهما استراتيجيا واقتصاديا، حول الإرهاب. ولكن الإشكالية مع الجانب الآخر (الغرب) كانت متعددة ومتفرعة؛ فمرة بات الإرهاب جزءا من «القضية الإسرائيلية» أو المسألة اليهودية اللصيقة بالتاريخ الغربي، فبات الإرهاب لصيقا بالعرب والمسلمين. ومرة أخرى اختلط الإرهاب مع ما تصوره الغرب ضرورة للقيام بعمليات للهندسة الاجتماعية والسياسية للدول العربية والإسلامية.
وجاء غزو العراق وأفغانستان ومحاولة إعادة تركيبهما على الطريقة الغربية، تعبيرا عن الفشل الذريع الذي كان أبلغ مظاهره تغذية الإرهاب وإعطاءه مددا بالسلاح والمال والأفراد لم تكن لتتوفر له دون هذه السياسة التي باتت لعنة غربية بعد الحدث الإرهابي المروع في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ومرة ثالثة كان العمى عن الحقيقة كاسحا عندما اجتمع الليبراليون واليساريون في الغرب، مع جماعات من الباحثين والأكاديميين، على أن جماعة الإخوان المسلمين وجماعات مماثلة لها هي من الجماعات «المعتدلة» التي تصلح لأن تكون المقدمة «الطبيعية» في البلدان العربية والإسلامية للديمقراطية.
وعندما جاءت نسمات «الربيع العربي»، تصوّر باراك أوباما وأحزاب ديمقراطية واشتراكية أن ذلك هو السبيل لتغيير النظم السياسية في المنطقة. وبشكل ما التقى مفهوميا كل من الرئيس جورج بوش الابن والرئيس باراك أوباما، كل على طريقته في العمل، على إعادة تركيب الدولة العربية مرة بالقوة المسلحة، ومرة عن طريق أجهزة وتنظيمات قد تكون غير مسلحة، ولكنها كانت قاتلة بالطريق نفسه. وباختصار، كان إضعاف الدولة العربية أولى السبل لكي يجد الإرهابيون ساحة جاهزة للتمدد والانتشار في منطقة ممتدة من المغرب والصحراء الأفريقية غربا حتى باكستان شرقا. ولم يجد هؤلاء إلا فرصا كثيرة للقتل والتدمير لم يفرقوا فيها بين عربي وعجمي، ومسلم ومسيحي، وسفير وصحافي أميركي وابن قاضٍ مصري.
كانت هناك كثير من الحسابات الخاطئة بما يكفي على الطريق لكي يصل بنا الأمر إلى النقطة التي وصلنا إليها، والتي تتحمل مسؤولياتها أطراف متعددة. وكما يقال إنه من الأفضل بكثير أن تصل متأخرا من ألا تأتي على الإطلاق، فإن التحالف الذي يجري بناؤه في واشنطن وجدة ربما جاء المشاركون فيه في قوارب متعددة ولكنهم الآن، جميعا، في سفينة واحدة، تسعى لكسب الحرب ضد الإرهاب والإرهابيين وتنظيماتهم. ولكن الحرب (ككل الحروب) ليست سهلة، وربما كان الجزء الظاهر منها والمتعلق بتنظيم «داعش» هو أقلها قسوة، فتوازن القوى وفق كل المعايير ليس في صالحها، وهي بالضرورة تعيش وسط مناخ معادٍ لها في الأراضي التي استولت عليها، ولا يمكن لجماعة تعيش على العنف والتطرف والقتل والترويع أن تجد قبولا في محيطها الذي توجد فيه. الجانب الآخر لديه من العدد والعتاد والتكنولوجيا ووسائل استخباراتية وقوات ذات تدريب عالٍ ما يكفي لتدمير دولة «الخلافة» المزعومة. ولكن طبيعة الحرب، ونوعيتها، لا تجعل مثل هذا التدمير بالضرورة انتصارا، فقد حدث من قبل مع تنظيم طالبان عندما انهارت دولته، ثم نجح في التجمع مرة أخرى. فهذه التنظيمات لديها قدرة على التأقلم مع نطاقات جغرافية متعددة، وفيها من الخداع ما يجعلها تظهر تحت أسماء متعددة براقة بالحديث عن «الخلافة» و«الشريعة» و«النصرة» تجذب شبابا لم ينجح أحد آخر في اجتذابهم. القاعدة الفكرية الأساسية فيها هي التطرف والغلو والبناء على تفسيرات للدين اعتمدتها جماعات ممتدة من الخوارج حتى الحشاشين.
هنا تحديدا سوف تكون المعركة الكبرى من أجل عقول وقلوب العرب والمسلمين في دول العالم المختلفة، وهي معركة لا تحتاج قوات خاصة، أو طائرات قاتلة من دون طيار، أو أقمارا صناعية تكشف وتعري، وإنما تحتاج جنودا من نوع آخر في علوم السياسة والاجتماع والاتصال. وإذا كان باراك أوباما قد وضع 3 سنوات أفقا زمنيا لهذه الحرب، فإن التقدير هنا أنها بالنسبة لنا في العالم العربي ربما تستغرق وقتا أكبر، ولذلك فربما نحتاج إلى بناء استراتيجية طويلة النفَس فيها تحديد للأولويات التي إذا بدأت بـ«داعش» فإنها لن تنتهي به.
وفي منطقتنا، فإن هناك عدة دول عربية تحتاج إلى إعادة بناء بعد سنوات من المعاناة مع التطرف، أولها العراق وثانيها سوريا وثالثها اليمن ورابعها ليبيا. وربما كان الانتصار المصري على جماعة الإخوان المسلمين أول الحرب على الإرهاب في معركة لم تنتهِ بعد، ولكن المسألة في مصر حيث الدولة قوية وراسخة ولديها تقاليد الجيوش المحترفة جعلت ذلك ممكنا بمثل ما جرى، ولكن الحرب في الساحات الأخرى سوف تكون أكثر صعوبة وتعقيدا من الحالة المصرية.
وفي النهاية، فإنها حرب لا مفر منها، وهي ليست فقط لإنقاذ الحياة في الدنيا، بل أيضا لإنقاذ النفس في الآخرة.