مثل كل المدن الحضارية الضاربة في عمق التاريخ والتألق، تبقى لبغداد خصوصياتها رغم كل الجراح التي تفتقها التفجيرات العشوائية التي تحصد أرواح الأبرياء دون ذنب، وسر سحر العاصمة العراقية هو تشبث أهلها بالحياة وبالفرح، وليلها الذي جرى اختصاره إلى ساعات قليلة (حتى منتصف الليل) حيث يجري فرض حظر التجوال. وكانت ساعات السهر في هذه المدينة تمتد حتى الفجر، لذلك نرى الناس يخرجون إلى الشوارع والمقاهي والأسواق والمطاعم منذ ساعات مبكرة من المساء كي ينعموا بحياة مختلفة تماما عن نهارات بغداد الساخنة والمزدحمة، يضاف إلى هذا أن أصحاب السيارات لا يستطيعون قيادة سياراتهم كل يوم نهارا بسبب تطبيق قانون سير المركبات التي تحمل ألواح أرقام زوجية وفي اليوم التالي للأرقام الفردية، لكن هذا القانون يتوقف بعد الساعة الثامنة مساء ويكون من حق الجميع قيادة سياراتهم مما يتسبب بمزيد من الاختناقات في الشوارع.
استعادت «الشرق الأوسط» استكشاف الحياة الليلية في بغداد، من فوق سطح بناية عالية بوسط العاصمة العراقية التي تبدأ في أول ساعات المساء مثل ثريا عملاقة حيث الأضواء تنتشر في كل أرجائها، مدينة مسترخية عند ضفتي نهر دجلة، النهر الذي أغوى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببناء عاصمته المدورة على الضفة الغربية من النهر (الكرخ) قريبا من مدينة الكاظمية حاليا، خطط لها سنة 758 وأتم بناءها سنة 766 ميلادية، وبالتأكيد لم تكن هناك أبنية عالية ليتخيل مدينته ليلا وهي مفعمة بالأنوار لكن المنصور نشر في المخطط الأولي بذورا من الكتان وأشعلها ليتخيل منظر مدينته في الليل.
وتنتشر حدائق شارع «أبو نؤاس»، الشارع الأشهر ببغداد، على جزء من حافة دجلة بجانب الرصافة، بينما الجهة المقابلة مغلقة تماما حيث تقع المنطقة الخضراء التي تضم مقار معظم السفارات، وأشهرها سفارة الولايات المتحدة التي تعد أكبر سفارة أميركية من حيث المساحة وعدد العاملين فيها في العالم، ومساكن المسؤولين العراقيين والقصر الجمهوري.
كل شيء يبدو منظما ونظيفا وهادئا ببغداد إذا ما تطلعنا إليها من سطح بناية عالية، لكن كل هذه الصور تتغير وتبدو على العكس تماما عندما نهبط إلى شوارعها، حيث ضجيج السيارات والشوارع الخربة والبنايات المتآكلة وتلال الزبالة حتى في الشوارع الرئيسة التي تعوزها الإنارة، خاصة شوارع السعدون والجمهورية والرشيد والكفاح بجانب الرصافة.
يعد حي البتاويين الذي كان من الأحياء البغدادية الأصيلة وأبنيته التراثية التي يمتلك أغلبيتها يهود العراق قبل تهجيرهم، ثم المسيحيون الذين كانوا السكان الأصليين لهذا الحي الذي يقع قريبا من ساحة التحرير وسط بغداد. ويتحول هذا الحي الذي تهدمت معظم أبنيته التراثية الجميلة، مساء إلى بيئة حاضنة لمتعاطي المخدرات والكحول بعيدا عن أعين السلطات التي تركت كل شيء عرضة للخراب بعدما رحل سكان البتاويين من العوائل المسيحية قسرا وليس طواعية، بينما كانت هناك مشاريع طموحة لأن يكون حي البتاويين مركزا حيويا لوسط المدينة وأن تتحول بيوته إلى مقاه ومطاعم ومحلات راقية ومكتبات شبيهة بوسط بيروت (السوليتير).
وعند عبور نهر دجلة باتجاه حي المنصور الراقي بجانب الكرخ، تجد أن البغداديين يمضون معظم أماسيهم في ثلاثة أحياء رئيسة هي الكرادة بجانب الرصافة، وشارع 14 رمضان في المنصور وشارع الكندي بحي الحارثية الراقي لكثرة الأسواق والمقاهي والمطاعم، والأسواق في هذه المناطق تبقى أبوابها مفتوحة إلى ساعات متأخرة من الليل، وهذا ما يجتذب العوائل، إلا أن العلامة الفارقة الجديدة في حي المنصور هو المركز التجاري الضخم (مول المنصور) الذي يزدحم بالزوار منذ الصباح وحتى الليل، ويضم هذا المركز الذي افتتح قبل أقل من عامين دور عرض سينمائي ومحلات فاخرة للملابس النسائية والرجالية والإكسسوارات إضافة إلى مقاهيه ومطاعم الوجبات السريعة التي تجتذب الشباب.
ويوضح فراس الشمري، وهو صاحب مقهى (كوفي شوب) في شارع 14 رمضان، قائلا «في بغداد سهرات أو نزهات عائلية بريئة، وأماكنها هي المقاهي والمطاعم والمراكز التجارية، وهذه تجري كل يوم تقريبا ما بين الساعة السادسة مساء وحتى التاسعة أو العاشرة ليلا، وهناك من يفضل اصطحاب عائلته إلى الحدائق العامة مثل متنزه الزوراء ومدينة الألعاب في المتنزه وحدائق شارع أبو نؤاس، خلال أيام العطل الأسبوعية والأعياد»، مسترسلا بقوله «وهناك من يفضل قضاء الليل في المطاعم الليلية (النايت كلوب)، وهذه للرجال فقط، أي لا يصطحب أي رجل عائلته لمثل هذه الأماكن التي صارت منتشرة بوسط بغداد حيث يؤدي عدد من المطربين والمطربات فقرات غنائية، وهذه النوادي مفتوحة كل ليلة ما بين الساعة التاسعة وحتى الخامسة فجرا، وهذا يعني أن من يرتاد أيا من هذه النوادي لن يستطيع الخروج إلا عند الفجر بسبب ساعات حظر التجوال (من منتصف الليل وحتى الخامسة فجرا) ورواد هذه المواقع غالبيتهم من الشباب أو الزوار المقبلين من المحافظات الأخرى».
عند أبواب المنتديات الليلية وغالبيتها قرب الفنادق الكبرى هناك لوحات كبيرة تحمل صور وأسماء المطربين الذين يحيون الحفلات الليلية، وقال موظف في فندق فلسطين (ميرديان سابقا) إن «الفندق يضم ثلاث صالات جرى تحويلها إلى نواد ليلية، أحدها في الطابق العلوي من الفندق يفتح أبوابه ما بين السابعة مساء وحتى ما قبل منتصف الليل بنصف ساعة كي يتاح للرواد الوصول إلى بيوتهم قبيل تطبيق حظر التجوال، وصالتان تستقبلان الزبائن طوال الليل وحتى الفجر، وهناك صالة أخرى بجوار فندق كريستال جراند عشتار (شيراتون سابقا)»، مشيرا إلى أن «إدارة هذه النوادي لا تتبع إدارة الفنادق بل مؤجرة من قبل أشخاص آخرين».
ويضيف هذا الموظف الذي يعمل في فندق فلسطين منذ عام 1985، فضل عدم نشر اسمه، قائلا «يتراوح سعر تذكرة الدخول ما بين 50 و75 دولارا أميركيا، وأسعار الطعام والمشروبات في الداخل غالية جدا، وهذا يعني أن هناك طبقة من المجتمع قفزت في مستوى الغنى والثراء لأن بعض الرواد ينفق آلاف الدولارات داخل الصالة، بما فيها الأموال التي ترمى على المطرب أو المطربة إعجابا به، وربع هذه الأموال يذهب للمطرب بينما الباقي يكون من حق صاحب الصالة باعتباره ينفق أموالا كثيرة كرشى للجهات المسؤولة عن منح الإجازات والرخص وحماية هذه الصالات».
وبعيدا عن المقاهي والمطاعم أو ما أطلق عليها الشمري أماكن اللهو البريئة، وعن صالات النوادي الليلية، هناك أماكن راقية للغاية وهي النوادي الاجتماعية الخاصة التي يرتادها أعضاء مقابل بدلات اشتراك مرتفعة، وغالبا ما يكون رواد هذه المنتديات من العوائل، وأبرزها نادي العلوية الذي أسسه البريطانيون في بدايات العشرينات من القرن الماضي، ويقع في شارع السعدون قريبا من نهر دجلة، ونادي الصيد في حي المنصور الذي تأسس في الخمسينات من القرن الماضي من قبل أبناء الطبقات الغنية والمترفة من هواة الصيد وقتذاك، وهناك نواد اجتماعية خاصة للمسيحيين (نادي الهندية) والاسم مشتق من منطقة عرصات الهندية في الكرادة، ونادي التعارف لأبناء الصابئة المندائيين، ونادي صلاح الدين للأكراد ببغداد، إضافة إلى نواد خاصة بالعاملين بمهن معينة، مثل نوادي: التشكيليين واتحاد الأدباء والأطباء والمهندسين والمعلمين والصيادلة والاقتصاديين والحقوقيين، وهكذا.
وعلى الرغم من التفجيرات التي تحدث هنا وهناك ببغداد، وعلى الرغم من مصاعب الحياة، فإن الزائر للعاصمة العراقية سوف يكتشف أن كل هذه الأماكن مزدحمة خلال ساعات المساء والساعات الأولى من الليل، سواء كانت مقاهي أو مطاعم أو مراكز تجارية أو نوادي اجتماعية راقية أو نوادي ليلية، وكل يسهر أو يتسلى بقدر حالته الاجتماعية والاقتصادية في محاولة «لمقاومة اليأس والضجر والإرهاب» على حد تعبير المهندس سعد مجيد، مشيرا إلى أن «بغداد طوال تاريخها، وحتى خلال الحرب العراقية الإيرانية لم تستكن إلى الحزن، والبغداديون توارثوا حضارة الفرح منذ مئات السنين، فمن لا يستطيع الذهاب إلى هذه الأماكن تجده يقضي أماسيه مع عائلته في البيت أو مع أصدقائه وقد اجتمعوا حول عازف عود ومطرب في أحد البيوت».
8:17 دقيقة
البغداديون يمضون أماسيهم في المقاهي والمطاعم والنوادي رغم المصاعب
https://aawsat.com/home/article/182881
البغداديون يمضون أماسيهم في المقاهي والمطاعم والنوادي رغم المصاعب
سر سحر العاصمة يتمثل في تشبث أهلها بالحياة وبالفرح
- بغداد: معد فياض
- بغداد: معد فياض
البغداديون يمضون أماسيهم في المقاهي والمطاعم والنوادي رغم المصاعب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة