خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الجني أميركا

اعتادت البشرية لقرون على تفسير أي شيء يعيا علينا فهمه أو لا يعجبنا أثره أن ننسب فعله لجني. تخلص الغربيون أخيرا من هذه السذاجة بتبنيهم للعقلانية والعلمانية. كل ما يحدث شيء يبحثون عن مسبباته الحقيقية والموضوعية. وعلى الغالب سرعان ما يكتشفون أمره وأسراره ويتوصلون لوسيلة لتطبيعه والاستفادة منه. غير أننا، ونحن على ما نحن عليه من الجهل واصلنا أسلوبنا القديم. ننسب أي شيء لا يعجبنا لجني ونذهب لقارئ فال أو سحار ليخلصنا منه.
بيد أننا تطورنا قليلا في السنوات الأخيرة بفضل كل هذه المدارس والجامعات والكليات العلمية التي فتحناها. لم نعد ننسب كل ما يحدث عندنا لأحد من الجن. وجدنا بديلا عنه. إنه أميركا. كل ما يصيبنا أو يحدث في عالمنا سببه أميركا. كيف ظهرت «داعش» ومن جاء بها؟ بلاش كلام! إنها أميركا. والآن تصدت لهم البيشمركة الكردية وراحت تحرر الأرض من جرائمهم وأوساخهم. من أمر البيشمركة بمحاربتهم؟ إنها أميركا. ورد في الأخبار أن بريطانيا زودت الأكراد بالسلاح اللازم. لماذا فعلت ذلك؟ لأن أميركا أمرتها.
وما كل هذه اللخبطات والفوضى التي تكتسح العالم الإسلامي؟ لم ظهرت الآن؟ من علم المسلمين على هذا الإرهاب؟ من أين تلقى أبو قتادة والظواهري وأسامة بن لادن وسواهم من رواد القتل والخراب أفكارهم ومخططاتهم؟ ومن زودهم بالمال والعتاد والتكنولوجيا للقيام بكل ذلك؟ بالطبع، أميركا يا سيدي. ومن جاء بصدام حسين وأوحى له بغزو الكويت؟ جاء بقطار أميركي. لا تصدقني؟ ولكن هذا ما قاله الرفيق عماش عن وصول البعث للحكم: «جينا بقطار أميركي».
كل شيء ولا يمكن أن يحدث أي شيء من الأشياء بفعل من يدنا وأفكار في رأسنا وخبطة من جهالاتنا. كلا. فنحن عاجزون عن فعل كل شيء أو التفكير في أي شيء. في حين أن الأميركان يخرجون كل يوم بشتى المخترعات الجنونية والاكتشافات المذهلة، تماما مثل العفريت الذي خرج من إبريق سليمان المسحور وراح يقول لإسرائيل: «بيك! لبيك! أنا عبد بين إيديك. اطلب يا سيدي وتمن!».
وهذه محنة شخصية أخذت تهد أعصابي. ففي هذه الأيام، لم أعد أستطيع أن أقول شيئا أو أبدي رأيا لا يسر الآخرين إلا وقالوا إنني سمعت بذلك من الأميركان. والآن وأنا أوشك على نهاية هذه المقالة، أكاد أسمع ما سيقولون عني وعنها: هذا كلام أميركاني أوحت لي به أميركا.
نعم، إنها نفس العقلية الاستسلامية القديمة بالضبط. كل ما في الأمر هو أن أميركا حلت محل الجني القديم.