حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

أمة تذبح مستقبلها!

كنت في لقاء جمعني بالصدفة البحتة مع أحد الأصدقاء على عشاء مختصر كان مدعوا فيه أحد الأطباء النفسيين المعروفين والذي له عيادة ويزور المستشفى الذي يعمل به في السعودية بشكل دوري، كان يبدو عليه القلق وهو يستمع إلى أطراف الحديث الذي كان معظمه يدور على أوضاع وتداعيات الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط المأزومة، والاستعداد الحاصل فيها لانطلاقة حرب «دولية» جديدة على هدف جديد، وطبعا مع عدم إغفال ذكر حمامات وبحيرات الدماء المسكوبة في المناطق المختلفة من العالم العربي اليوم، والذي تحول في فترة قصيرة إلى ساحة قتال «عالمية» جاءت إليه قوى الظلام تقاتل فيه، لا أحد يعلم من أين أتت ولا من يقف وراءها ولا من يدعمها ولا من يمولها ولا حجمها الحقيقي الفعلي.
كل هذه الأسئلة تضاعف من حجم الغيمة السوداء التي تطوف على رؤوس الناس وتثير القلق والخوف من الغد المجهول، وهنا تدخل الطبيب النفسي ليقول إنه لاحظ زيادة مهولة في عدد المراجعين عنده قياسا ومقارنة بالعام الماضي، وأن نسبة الزيادة تجاوزت الـ400 في المائة ولاحظ وجود حالات مرضية «كثيرة جدا» من حالات الاكتئاب والقلق والخوف وهي حالات يشخصها الطب النفسي بالحالات «الظرفية» التي تكون نتاج أوضاع قهرية وظروفا استثنائية تثير تطورات نفسية كثيرة في الحالة البشرية.
لكن النقطة اللافتة التي تعرض لها الدكتور النفسي بحكم اطلاعه وتجواله في أكثر من بلد عربي وذلك بسبب تخصصه المطلوب، هي أنه لاحظ حالة «كارثية» في وسط الأطفال وبأعداد تقدر بالآلاف.. الأعراض التي تبدأ بالتبول اللاإرادي وبعدها الرعشات الجسدية وحالات الكوابيس المقلقة والتي تحول دون الطفل والنوم الطبيعي، وحالات انقطاع التنفس بسب الخوف والصراخ الفجائي وفقدان الإحساس بالثقة والأمان وانعدام الطمأنينة وغياب فكرة الدار والمنزل والمدرسة والبلد والأب والأم والأخ والأخت كحالة طبيعية متوقعة.
عاين الدكتور بنفسه حالات بحسب وصفه «مذهلة» في غزة والعراق وسوريا (في المخيمات لأن النظام لم يسمح لوفود طبية بالزيارة) وفي لبنان وليبيا واليمن.. كل الحالات أثارت مخاوفه وهلعه على النتائج المتوقعة على أجيال هائلة من الأطفال في العالم العربي، وهو لا يستهين أبدا بذلك الأمر، فهو يعلم تماما أن العالم العربي منطقة معظم سكانها من أجيال الشباب والذي يشكل فيه الأطفال نسبة مهمة جدا وهم نواة المستقبل المأمول، وعليه فإن الآثار المترتبة لذلك ستكون عنيفة جدا، ويستشهد بما حدث لأطفال فيتنام وكمبوديا بعد سنوات الحروب الأهلية المتوحشة التي خلفت أجيالا مهزوزة ومنعدمة الثقة، خالية من العواطف والأحاسيس والمشاعر، وحولتهم إلى ما يشبه الإنسان الآلي، وكذلك ما يحصل في كوريا الشمالية التي يعاني أطفالها من حكم طاغٍ تسبب في مجاعة مرعبة مما أثر على نمو وبنيان جيلين من الأطفال هناك، حتى بات من الممكن قياس الفارق في الشكل والتكوين بين البنية الجسدية للطفل الكوري الشمالي والكوري الجنوبي؛ الأول جسده أصبح أقصر وأكثر نحولا، بينما الثاني أصبح أكثر طولا وذا بنية صحية. لعل الفاتورة الأكثر ثمنا هي التي سيدفعها الطفل العربي، وخصوصا ما يحدث بحق أطفال سوريا في ظل أشرطة الفيديو التي تروج ويصورها أنصار تنظيم حزب الله الإرهابي التكفيري في لبنان وهم يروعون أطفال المخيمات السورية في لبنان بشكل لا يليق ويخلو من أي آدمية أو أخلاق.
وعندما سألت الطبيب تحديدا كيف يمكن قياس النتائج السلبية المتوقعة؟ أجاب؛ من الطبيعي أن تكون الأمراض النفسية المزمنة إحدى أهم النتائج، ولكن هذه الأمراض قد تولد نزعات إجرامية، فيلجأ الطفل إلى الجريمة «للانتقام» من مجتمعه بشكل جماعي أو إلى الفكر المتطرف كحل «نهائي» لعقاب المجتمع باسم الدين بحسب ما يتم تصويره له.
النقاط التي تطرق إليها الطبيب النفسي تعكس مشكلة عظيمة لا نعي أبعادها إلا عبر مشاهد سريعة في مقدمات نشرات الأخبار الفضائية وهي تظهر حالات البؤس على وجوه الأطفال الأبرياء كضحايا للأزمات السياسية في العالم العربي.
أمة تذبح مستقبلها بأيديها بشكل فعلي، فهل هناك جريمة أعظم؟