أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

«جدة».. امتحان النوايا في وقت الشدة

المتذمرون يدّعون أن عودة أميركا إلى المنطقة بذريعة حشد تحالف ضد الإرهاب، ستشعلها بنيران الحرب والتسلح، وكأن المنطقة خلال سنوات الغياب كانت منتجعا سياحيا فاخرا وقبلة لهواة جمع القواقع.
الحقيقة أن غياب واشنطن المتعمد هو ما أتاح فرصة حتى للذئاب الصغيرة لأن تشب سريعا وتستأسد، فباتت الغابة الشرق أوسطية مرتعا للضباع وعصابات السلاح ومرتزقي التصفيات الدموية.
تعبنا ونحن نطالب أميركا بالقيام بدورها وواجبها بوصفها دولة عظمى تربطها مصالح كبيرة؛ سياسية واقتصادية، بالمنطقة. كل المحاولات لم تفلح، حتى عندما يتم إحراج الإدارة الأميركية بمواقفها المتناقضة في الموضوعين الليبي والسوري، تبرر بأن التدخل العسكري في ليبيا كان أكثر سهولة حيث لا حسابات معقدة سوى إسقاط معمر القذافي وهو أمر مجمع عليه، أما في الشأن السوري، فهناك أطراف كثيرة وكبيرة يعنيها بقاء النظام أو على الأقل يعنيها استمرار الحرب، مما جعل منها قضية معقدة.
الأكيد أن واشنطن كانت تنظر للساحة السورية على أنها فرصة لإضعاف النظام السوري و«حزب الله»، واستنزاف إيران، وتشويه صورة الروس الداعمين للديكتاتور، وكلها أهداف تحققت. كان المأخذ الوحيد أن أميركا تخلت عن المعارضة السورية التي تشمل الفصائل الإسلامية المعتدلة، واكتفت بدعم فني وتقني أقل من المأمول. كانت حجتها المعلنة أن تسليح المعارضة، خاصة بالصواريخ المضادة للطائرات، قد يجعل هذا السلاح يوما ما في يد الإرهابيين. استفاقت الإدارة الأميركية على حقيقة أن «داعش» يملك من السلاح المتطور والجديد ما لم يملكه تنظيم القاعدة في ذروة قوته، ويملك أموالا سلبها أو جاءته من عطايا من أفراد ودول، تجعله من أغنى العصابات في التاريخ. والحقيقة الأهم التي أدركها أوباما أن قيامه بدور رجل السلام في زمن الحرب لن يجعله ينام آمنا، وأن انصراف أميركا عن المنطقة لن يجعل الإرهابيين يدينون لها بالفضل، بل ستظل دائما محط غضبهم ونقمتهم.
التحالف الذي حشدت له واشنطن في مدينة جدة السعودية جاء في وقت الشدة، وقت شعر فيه الجميع أن عليهم أن يتجاوزوا خلافاتهم ويجتمعوا على الاعتراف بأن محاربة «داعش» أولوية قصوى. في اجتماع جدة، توافق المصريون والأتراك على هدف واحد، وكان الخليجيون كتلة متماسكة، ووضع جون كيري يده في يد نظيره المصري سامح شكري بعد طول جفاء. لم تتبنَّ أميركا محاربة التنظيم وحدها كما فعل جورج بوش الابن.. أوباما أرادها مسؤولية مشتركة.
لكن هذا التحالف الدولي الكبير سيفشل لا محالة إن هو تعاطى مع «داعش» على أنه نتيجة، وأهمل «داعش» السبب. عمليا؛ تمت أولى مراحل الحرب على «داعش» في العراق من خلال استبعاد نوري المالكي.. هذه خطوة سياسية استبقت العمل العسكري. ولأن الإرهاب يتمركز في العراق وسوريا بشكل رئيسي، فإن على التحالف أن ينظر إلى أن استمرار نظام بشار الأسد الداعم للإرهاب سيجعل من سوريا «قربة مخرومة»، مهما ضرب التنظيم الإرهابي فيها، فلن يتم القضاء عليه والنظام الحالي قائم. التحالف ضد «داعش» ليس شكلا مبسطا لدول تمارس تنظيرا حول الإرهاب ثم ضربات جوية تلاحق جيوب «داعش» في شمال العراق وشرق سوريا.. إن اكتفى التحالف بهذا العمل، فخير له ألا يأمل بالنجاح. الأهم من ملاحقة «داعش» هو غلق الأبواب والنوافذ التي دخل منها الإرهاب؛ سياسيا على المدى القصير، وفكريا على المدى البعيد. صحيح أن ذلك سيغضب الأطراف المتورطة في الشأن السوري مثل روسيا وإيران، ولكن غضبة هؤلاء لا قيمة لها.. روسيا مثلا لم تكن راضية عن دخول الناتو ليبيا، ولكنهم دخلوا وأسقطوا نظام القذافي ولم تملك موسكو حيال ذلك سوى الصمت. واشنطن وحدها من جعلت لكلمة الروس قيمة في الموضوع السوري حينما فتحت لهم مسرح مجلس الأمن. أما الإيرانيون، فهم سعداء بالتحالف ضد «داعش» في العراق، ولكنهم لا يريدونه في سوريا، لأنهم يرفضون «داعش» في العراق، ولكنهم يرحبون بوجوده في سوريا. على طهران أن تحل هذه الأحجية أولا ثم يتم النظر في شأنها.
التحالف يجب أن يكون ضد الإرهاب وليس ضد «داعش».. لا فرق بين «داعش»، و«أنصار الشريعة» في ليبيا، أو «أنصار بيت المقدس» في سيناء، أو «عصائب الحق» العراقية، أو «حزب الله» اللبناني.. كلهم «دواعش» بألوان مختلفة.
أيضا لا يستطيع التحالف ضد «داعش» أن يتجاهل ظروف الدول الأعضاء فيه، حتى لا يكون سببا في تعطل مصالحها أو الإضرار بعلاقاتها الدولية أو ظروفها الداخلية. مصر مثلا دولة لا تزال تقاوم التحديات الاقتصادية والأمنية، وتملك علاقة مصالح مع الروس الرافضين للتدخل العسكري في سوريا.. إنما من جهة أخرى، هذا التحالف فرصة كبيرة للقاهرة لأن تمارس براغماتية سياسية وتضع جزءا من مسؤولية التصدي للإرهاب في مصر بوصفه عبئا دوليا، وهي التي ما برحت تنادي بحاجتها للدعم الدولي في مكافحة الإرهاب في سيناء وحدودها الغربية مع ليبيا. كذلك دول الخليج الغنية بالنفط لها اليد العليا في إرساء سياسة العمل داخل التحالف، وتحديدا السعودية بعلاقاتها الوثيقة وثقلها السياسي، خاصة مع التوقعات بطول مدة عمل التحالف الذي سيستنزف أموالا وجهودا كبيرة، لكنها أيضا فرصة للسعودية في داخلها وخارجها لتكون أعلى صوتا ضد كل من يدعم الإرهاب؛ أفرادا ودولا.
قبل 3 سنوات وخلال فوضى الثورات، كان بعض الدول والأفراد يتسابقون لتقديم الأموال والسلاح وتسهيلات الحركة والتنقل لفصائل تدعم مصالحها الضيقة وإن كانت متطرفة.. وإن كانت نبتة في حوض تنظيم القاعدة.. قويت هذه الفصائل وتكتلت حتى أصبحت ماردا كبيرا اسمه «داعش» انقلب على الكل. اليوم يتشكل تحالف دولي لقتاله، فما الذي تغير؟ خطأ في الحسابات السياسية جارٍ تصحيحه.

[email protected]