سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ذاكرة العضلات

أمامك دائما خياران: إما أن تتعلم من الملاحظة، وإما أن تغضب وتضرب وتغادر المكان. لن تحزر ممن تعلمت الدرس العلمي البليغ هذا اليوم. لقد أمضيت هذا العمر في حالتين؛ إحداهما جميلة والثانية فائقة الجمال. الكتابة والقراءة. ومثل كل المتع الكبرى، كان لا بد من ثمن. لذلك تحصّلت لدي انحناءة في العنق. ولم تعنِ لي الجماليات كثيرا أو قليلا، لكن إعاقة عمل شرايين الرقبة جعلتني أذهب إلى طبيب في نيويورك لأسأل إن كان لا يزال من الممكن في عمري أن «أحصِّل قليلا» كما يقول اللبنانيون.
طلب أولا الأشعة. ثم التخطيط. ثم دخول نفق المغناطيس. وبعدها قال لي إن في الإمكان التوصل إلى بعض «التحصيل» ولكن.. وهذه «اللاكن» دائما مرعبة عندما يكون المتحدث طبيبا، فسألته ملهوفا: «وما بها لكن هذه». قال: «لا شيء، لكن أحب أن ألفت نظرك أن للعضلات ذاكرة»! ماذا؟ كرر «للعضلات ذاكرة. لقد اعتادت عليك سنين طويلة وأنت ترغمها على وضع معين. والآن عليك أن تملأ ذاكرتها وضعا جديدا. وهذا ليس سهلا».
قلت «هل تقرّعني أم تمازحني، كيف للعضل ذاكرة»؟ قال «للإنسان والجماد والأنهر ذاكرة. والذاكرة ليست دائما خلايا. إنها أحيانا حصى أو تراب أو عضل. لذلك، عندما تحوِّلها عن مسارها أو تملؤها فوق سعتها تتفجر. التواء عنقك مجرد عمل ذاكرة. ولن يكون في إمكانك أن تضحك عليها في يوم واحد. يجب أن تدرِّبها من جديد، على أنه يحلو لك أيضا أن «تحصِّل» وأنه لم يكن في خطَّتك أبدا أن تحدودب، وأن كل ما حدث إنما وضع بطريق الخطأ والإهمال وتفضيل القراءة مع الألم على الاستراحة وتأمل الأشياء عن بعد». وقال الطبيب (أمثولة أخرى) عندما تشعر أنك قد تغيب عن الوعي انظر فورا إلى البعيد وليس أمامك. أي أن الرؤية وعي. سواء كان جسمانيا أو ثقافيا أو روحيا.
عندما لا تنظر إلاَّ إلى تحت أمامك، تفقد الوعي، وإذا لم تصغ لن تتعلم شيئا. وإذا اعتبرت أن تصحيح كل خطأ هو إهانة شخصية لك فسوف تمضي العمر متنقلا بين الأخطاء. حتى الثور يتعلم أن يحيد عن الالتواء. أو بالأحرى حتى العضلات لها ذاكرة. حاول أن تدربها على الوضع الصحيح للعنق وسوف تتعلم. حتى الجماد يتدرّب على أن يتعلم. حتى الفيلة تتدرب على الرقص. حتى الببغاء يأفف من ترداد الكلام التافه. كل ما يقتضي الأمر منك هو أن تتواضع قليلا وأن تحاول الإصغاء. ولو لم تسمع.