د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

مواجهة «الإرهاب النقي»!

انشغلت أجهزة الإعلام الأميركية بإعدام الصحافي جيمس فولي من قبل «داعش»، بشكل بدا معه المشهد الذي تصدر تلفزيونات العالم وأجهزة الكومبيوتر تعبيرا عن «الإرهاب النقي» الذي تصل فيه البربرية إلى قمتها. جرى التحليل للصورة، والألوان، واللهجة الإنجليزية للإرهابي، ووسيلة الإعدام، وخلفية الصورة، وكذلك حدث للكلمات التي كانت مقدمة لعملية الذبح. في بضع دقائق، كان الإرهاب نقيا تماما ومؤثرا بشكل كامل. المشابهة جرت من دون قصد مع «الكوكايين» النقي الذي لا يحتاج المدمن فيه إلى أكثر من نقطة، يسري بعدها الغياب عن الوجود إلى عوالم أخرى. في الحالة الإرهابية يكون المشهد تلخيصا لكل المشاهد، فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي تذبح فيها «داعش» شخصا أو جماعة ما، فذلك ما كانت تفعله طوال الوقت حتى مع جماعات إرهابية مثلها، وشقيقة لها مثل «القاعدة»؛ وبعد ذبح فولي جرى قتل 134 من جنود الجيش السوري كانوا في قاعدة جوية بالرقة. الخلافة ببساطة ترسل الرسائل للجميع: للعرب والعجم، وللسنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين، وكل أصحاب الملل والنحل الأخرى. «داعش» ببساطة تهدد العالم، بل إنها تدعوه إلى منازلتها، هي تبحث عن معركة تاريخية أسطورية إذا انتصرت فيها تفتح العالم، وإذا انهزمت فإنها تصير نوعا من الخرافات الأبدية.
مثل ذلك هو نقطة الضعف الكبيرة في هذا البنيان الجديد القائم في قلب المنطقة العربية، والذي حتى عام واحد مضى لم يكن يزيد على تنظيم محدود التأثير، ويقف جنبا إلى جنب مع عشرات التنظيمات الأخرى التي تنافسه على الساحة السورية. الآن يبدو التنظيم كما لو كان جماعة صدام حسين أخرى التي استبد بها الظن، ليس فقط أنها تستطيع احتلال الكويت، بل أيضا أن العالم سوف يتملكه الجبن من مواجهتها. البربرية والإجرام والذبح من الوريد إلى الوريد صناعة إرهابية تنهي المعارك أحيانا قبل بدايتها، خاصة لو كان الخصوم لا يعرفون ما تغير من توازنات القوى. كان ذلك ما سبّب انتصارات «داعش» المتوالية، لأن الجيش العراقي كان به ما به من ضعف هيكلي؛ لأن الجيوش لا تقوم وحدها، وإنما توجد ساعة استنادها لدولة، كان المالكي قد أشبعها تمزيقا بعد تمزيق. البيشمركة كانت هي الأخرى أسيرة تاريخ أكثر من الحاضر، وكان وراءها عقدان أو أكثر من الدعة وسوء التسليح والاستراحة، إلا أن قضية الأكراد لا تزيد على اقتطاع ما يمكن من العراق. الوقت أيضا بات مناسبا، فأميركا لديها جرح عراقي كبير، وهي لا تعرف ما إذا كان «الربيع العربي» بشرى خير أم لعنة جديدة مزمنة. والشرق الأوسط لا يكف أبدا عن إنتاج أوضاع غير مستقيمة، وحرب غزة شهادة على أن الحرب دائما كامنة في صراع تاريخي.
المناخ كان مواتيا، والإرهاب «النقي» كان جاهزا، و«داعش» تقف على قمة هرم من الاستخدام السياسي للدين في قاعدته يوجد الإخوان المسلمون يوزعون منطقا قائما على العنف والتهديد به، وفوقهم يوجد من مارس العنف ضد «العدو القريب» مرة، والعدو البعيد مرة أخرى، مثل الجماعات «الإسلامية» و«الجهادية»، ومن بعدهما يوجد التنظيم العالمي لـ«القاعدة» الذي على قمته توجد «داعش» التي توجد فيها العصارة النقية للحالة الإرهابية كلها. وكما حدث في حالة صدام حسين من قبل، فإن ما يجري الآن يكفي لاستنهاض العالم أجمع، وعندما يستنهض العالم تصبح النتيجة محسومة. والحقيقة أن ما تعتبره «داعش» مزايا استراتيجية هي في حقيقتها مأزق استراتيجي، فاستيلاؤها على أرض، وإعلانها دولة يقضي على مرونتها، ويزيد من خسائرها، وهو ما حدث خلال معاركها الأخيرة، فقد كان ثمن انتصاراتها فادحا، وفقدت 500 مقاتل في معركة الاستيلاء على القاعدة الجوية السورية مؤخرا في الرقة. قارن ذلك بما فقدته في معارك سابقة في العراق وسوريا، تجد أن العد التنازلي للتنظيم قد يكون قد بدأ حتى ولو جاء مغلفا بانتصارات لا يمكن إلا أن تكون في حقيقتها مؤقتة. فالواضح حتى الآن أنه رغم الإعلان عن الدولة، فإن التنظيم الإرهابي لم يتولَّ أيا من مهام الدولة، وما استولى عليه من أموال لا ينفق إلا على الجماعة المسلحة. ولا يمكن تجاهل أن التنظيم فشل في الاستيلاء على بغداد، وأنه لم ينجح في احتلال أربيل، وما نجح فيه تراجع عن بعض منه، وحاول تعويضه في مناطق أخرى.
العالم الآن وصل إلى قناعات بأن «داعش» تمثل خطرا عالميا، وأن هذا الخطر يستوجب التدخل بالقوة المسلحة، وكانت المقدمة في استخدام الولايات المتحدة قواتها الجوية، ولا شك أن الإطاحة بالمالكي كانت مقدمة ضرورية لترتيب الأوضاع بشكل معقول في العراق، وهو ما ظهر بشكل ما في القدرة القتالية للجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية. كل ذلك لن يكفي لتغيير موازين القوى، ولن يحدث ذلك بشكل جوهري إلا مع بناء حلف عربي دولي، كما جرى في حرب تحرير الكويت. هذا التحالف يواجه أوضاعا أكثر تعقيدا مما كان الأمر في السابق، عندما كان مسرح العمليات واضحا (الكويت)، وهدف الحرب جليا (التحرير)، ودور كل طرف في العملية محددا، حينما تكونت قيادتان لإدارة المعارك كان التنسيق بينهما عميقا. الآن هناك مسرح للعمليات أكبر بكثير من الأرض التي تقف عليها «داعش»، لأن أمثالها كثر في المنطقة كلها، والعراق لا يزال أقرب لدولة فاشلة منها إلى دولة قائمة، وسوريا لا أحد يعرف تحديدا الحدود بين المعارضة والدولة، وهناك لبنان الذي به أكثر من دولة داخل الدولة. كل ذلك يحتاج إلى فرز، وتفكير استراتيجي عميق يقوم على معلومات غزيرة يتم جمعها على الأرض وفي السماء، وقبل ذلك وبعده تنسيق مع العالم والولايات المتحدة في مقدمته. واشنطن أوباما مصابة بالفزع من أن يكون لها جنود مرة أخرى في المنطقة، وذلك فيه حكمة، فقد كان وجودهم كارثة على المنطقة وعلى الولايات المتحدة. ولكن واشنطن لديها أرصدة أخرى، فأقمارها في السماء كثيرة، وأدواتها في التنصت لا يزاد عليها، وما بين الأرض والسماء توجد طائراتها، سواء كان بها طيارون أو من دونهم. الأرصدة الإقليمية غير قليلة، ومن الناحية الاستراتيجية، فإن الأرصدة لا تصير كذلك إلا إذا كانت قابلة للاستخدام. هزيمة المشروع الإرهابي في المنطقة ضرورة وإلا انهارت الدولة العربية، وما ينهار لن تقوم له قائمة مرة أخرى. ما نحتاج إليه قدر كبير من العلم والحكمة والعزم.