طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الأوراق الخاصة متى تُصبح عامة؟!

بعد الرحيل يتساءل البعض عن المقتنيات والأحاديث الشخصية، وهل يجوز نشرها على الملأ؟ تردد هذا السؤال بإلحاح مؤخرا في وداع سعيد صالح.
الخاص والعام.. هل تذوب الفوارق بينهما؟ لو أننا بصدد الحديث عن شخصيات عامة سياسية أو فنية هل يصبح كل شيء متاحا للتداول بعد الغياب.
رسائل الفنانين الشخصية نحيلها إلى مشاع، أم أن ما كان سرا في حياتهم ينبغي أن يظل للأبد سرًا. قبل بضع سنوات فوجئنا بتصريح للسيدة نهلة القدسي أرملة الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب أكدت فيه أنها قد أضرمت النيران في تلك الرسائل التي أرسلها عبد الوهاب معبرا لها عن مشاعره العاطفية، بينما مثلا على الجانب الآخر حرصت السيدة جيهان السادات على الاحتفاظ بهذه الرسائل الخاصة للسادات، بل وقرأت بعضها في أكثر من حوار تلفزيوني وإذاعي.
السيدة نهلة أكدت بكل فخر أنها قد جمعت كل هذه الخطابات ووضعتها في قارورة كان يفضلها عبد الوهاب ثم حرقتها، وعندما سألوها عن السبب قالت أخشى بعد رحيلي أن تصبح في أيدي آخرين.
أرملة الموسيقار الكبير نفذت حكم الإعدام في هذه الأوراق، حتى لا تقع في أيدي الأبناء أو الأحفاد ثم يكتشفون أن جدتهم وجدهم كانا يتبادلان خطابات الغرام والعتاب والهيام، واختارت لحظة شديدة الرومانسية قبل 11 عاما، وهي ليلة الاحتفال بيوم ميلاد الموسيقار الكبير 13 مارس (آذار)، وغمرتها بماء العطر الباريسي المفضل لموسيقار الأجيال وأصدرت هذا الحكم القاسي. اعتبرت نهلة أن هذه الخطابات شأن خاص، حيث إن ما يربط عبد الوهاب بجمهوره هو أغنياته، وهي لم تفرط فيها وحافظت عليها وقدمت حتى المجهول منها كاملة للإعلام.
كل مقتنيات الفنان مع مرور الزمن تتحول إلى وثائق وليس مجرد مؤلفاته ولوحاته، سيدة الغناء العربي أم كلثوم احتفظت أسرتها بمناديلها الشهيرة ونظارتها السوداء وفساتينها، ولدينا في القاهرة متحف يضم عددا منها، صحيح أنه منذ 15 عاما تم التبرع بعدد منها في مزاد علني ذهبت حصيلته لمكافحة الجوع، وحقق أحد مناديلها الذي كانت تحرص على الإمساك به فقط مليون دولار، ولكن تبقى في المتحف جزء من المقتنيات الأخرى، إلا أن ورثة أم كلثوم مثل ورثة عبد الوهاب لم يسمحوا بأي أوراق خاصة للعرض في المتحف.
ويليام شكسبير تم الاحتفاظ بكل متعلقاته الشخصية ورسائله، وقبل بضع سنوات ثار جدل واسع حول «غليون» شكسبير هل كان لاستعماله الشخصي أم شاركه فيه الآخرون، الزعيم الوطني سعد زغلول مثلا نشرت مذكراته الخاصة والتي اعترف فيها آسفا بأنه كان يلعب القمار.
جبران خليل جبران الذي كان يجمع بين موهبة الشاعر والفنان التشكيلي والفيلسوف لم يتم الاكتفاء فقط بتجميع أدبه، سواء الذي أبدعه بالعربية أو الإنجليزية، بل كل مقتنياته تم الاحتفاظ بها، وبالطبع فلقد نشرت رسائله الغرامية التي كتبها للأديبة اللبنانية مي زيادة في كتاب، والمنضدة التي شهدت إبداعه وأدوات الكتابة والفرشاة كلها مع الزمن أصبحت شهودا على هذه العبقرية الاستثنائية، ولهذا تحولت هذه أيضا إلى مزار أقيم له في لبنان مسقط رأسه.
محمد عبد الوهاب كلما استمعنا إلى أحاديثه الإذاعية والتلفزيونية اكتشفنا أن بداخله أديبا كامنا، اختار أن يعبر عن نفسه بالموسيقى والأنغام، وأتصور أن رسائله الغرامية لزوجته من المؤكد بقدر ما كانت تحمل خصوصية، إلا أنها قد تكشف أيضا للدارسين جانبا من إبداعه.
كل التفاصيل الصغيرة ينبغي أن نحتفظ بها كشاهد على الزمن، أنه الخاص عندما يُصبح في جانب منه عام.