عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الكاتب والتقاليد

في المتحف المصري في القاهرة (يعرفه المصريون لقرابة 150 عاما بالانتكخانة)، تجد من الجرانيت الأسود تمثال «الكاتب المصري» واحدا من أشهر رموز الحضارة. وهو صورة غلاف كتاب «فجر الضمير» الصادر عام 1933 لمؤرخ المصريات وتاريخ العالم القديم السير هنري جيمس بريستيد (1865- 1935)؛ وهي الصورة التي كانت تزين الغلاف الداخلي لكتاب التاريخ في المرحلة الابتدائية، في زمن وزارة المعارف المصرية، عندما تولاها الدكتور طه حسين في العهد الملكي. وعندما ترجمت مسرحية «الكاتب والشحات» للصديق الكاتب المسرحي المصري علي سالم إلى الإنجليزية وأخرجتها وعرضتها في لندن (عام 1979) اخترنا صورة تمثال الكاتب المصري على الملصق الذي يروج للمسرحية.
الكاتب وضعته حضارة مصر القديمة في مكانة عالية مقدسة. وما كان هناك حضارة في العالم بلا كاتب، فكل شيء خرج من مصر بترجمة المعرفة من الهيروغليفية إلى الإغريقية لغة الدراسة في مكتبة الإسكندرية التي بدأت في القرن الثالث قبل الميلاد.
تداعت هذه الأفكار في ذهني بسبب نزاع بدأ في العطلة السنوية لبرلمان وستمنستر، والذي يعود للانعقاد غدا حول تعيين كاتب البرلمان Clerk of the House وكاتب مجلس العموم في مهامه واختصاصاته يعود إلى المعنى المصري القديم وليس فقط مدونا لما يدور.
فالكاتب المصري كان روح الأمة وضميرها ومن المنصب خرج الجهاز البيروقراطي الذي يحدد ملامح العمل العام والمهام الإدارية والوظيفية وكان يدار من المعبد، لأن أصل الدولة وشرعيتها في الحضارة المصرية القديمة كانا من المعبد. وكان الكاتب جزءا منها ومن مجموعة الكتبة ولدت الوزارات والمصالح بالشكل الذي نعرفه اليوم.
يعود منصب كاتب مجلس العموم إلى عام 1363. والكاتب الذي خرج إلى المعاش في نهاية السنة البرلمانية قبل شهرين، السير روبرت روجرز هو الكاتب الـ48 في 651 عاما، مما يعطي فكرة عن طول الخبرة. (كاتب البرلمان هو كاتب مجلس الشيوخ أو اللوردات وبدأ في عام 1280).
كلمة الخبرة هي المفتاح الذي نفهم منه النزاع الحالي. الإنجليز قوم محافظون والخبرة وحكمة السنين هي حجر أساسي في الثقافة البريطانية. ومثلا كلمة old تتجاوز معنى «قديم» أو «عجوز» في الحديث لتعني المعرفة والثقة، وعبارة my old man على لسان الزوجة الإنجليزية تعني زوجها، وتستخدم هذا التعبير عندما يتعلق الأمر بقرار تنتظر الرجوع فيه لزوجها قبل اتخاذه، وقد يكون زوجها لم يتجاوز الثلاثين لكنها استخدمت كلمة old إشارة للسيادة والاحترام، وتعبير old gentleman لا تعني السيد العجوز، وإنما تعني أنه جنتلمان كلاسيكي، وربما يكون في الثلاثينات من العمر، لكن سلوكه ومظهره يعنيان أنه من نخبة السادة. وتعبير proper old girl لا يعني أنها سيدة عجوز، بل يعني أنها على قدر كبير من التعليم العالي والتهذيب مما يضعها في مصاف النخبة.
باختصار الخبرة المتراكمة بمرور السنين لها احترام بالغ.
كاتب مجلس العموم هو قسم كبير ومكتب به موظفون وباحثون. والكاتب ومساعدوه يلمحهم القارئ العزيز إذا كان يتابع بث جلسات مجلس العموم على التلفزيون، يرى على المكتب أو الطاولة الضخمة (ثلاثة ونصف متر طولا ومتران وربع عرضا) الممتدة أمام مقعد المتحدث الأول speaker والذي تسميه الصحافة العربية «رئيس البرلمان»، وعلى طرفه المواجه للنواب يوجد الصولجان mace ولا يعتبر البرلمان منعقدا إلا إذا وضع الصولجان على الطاولة، ويأتي مع موكب رئيس البرلمان في الصباح، وهو موكب رسمي، على الأقدام من منزله الموجود وراء برج ساعة بيغ بن والمبني على ركن له واجهة على نهر التيمز، وواجهة على شارع امتداد جسر وستمنستر. على جانبي الطاولة وتحت منصة مقعد الرئيس ترى الكاتب ومساعديه بملابس وشعر مستعار من القرن الخامس عشر، أزياء لم تتغير، تؤكد الخبرة والتقاليد والاستمرارية.
الكاتب هو رئيس الجهاز البيروقراطي والأرشيف الدستوري للبرلمان. وهو مسؤول عن كل النواحي الإدارية من مأكل ومشرب (8 مطاعم، و4 حانات، و6 مقاهٍ) وإدارات الاحتفالات، وإصلاحات، وآلاف الخطوط التليفونية (يعمل أو يدخل ويخرج من البرلمان يوميا 13 ألف شخص غير الزوار) وحتى أعمال الصيانة.
لكن الأهم هي الإدارة القانونية والدستورية.
لا يوجد في بريطانيا دستور مكتوب، أو لوائح برلمانية مدونة رسميا، وإنما تقاليد محفوظة عن ظهر قلب. أحيانا ما تثار قضية حول اعتراض عضو على تصريح أو تصويت ويطلب نقطة نظام، قد يقبلها أو لا يقبلها الرئيس، وكثيرا ما تثار أمور ليس لها سوابق، ويحتار الرئيس في التعامل مها، هنا يأتي دور الكاتب الذي يدون في ورقة صغيرة الأخطاء أو ما هو الصواب ويمررها للرئيس لتصحيحها أي أنه دار الإفتاء القانونية والدستورية للمراسم البرلمانية.
منصب speaker يعود إلى عام 1258، لكنه كان متقطعا ولم تكن هناك استمرارية حتى 1707 عندما أصبح مؤسسة، وهو صاحب الكلمة العليا الأولى والأخيرة في مجلس العموم.
عندما أعلن السير روبرت روجرز عزمه على التقاعد، توقع الجميع أن يخلفه أحد مساعديه كما جرى العرف لستة قرون، وفوجئ الجميع باختياره – عبر لجنة إدارية - سيدة أسترالية كانت الرئيس الإداري لبرلمان أستراليا. أول امرأة تحتل المنصب، وليس لها أي خبرة.. هذا خرق واضح لواحدة من أهم المحرمات الإنجليزية. الاسم أرسل لمقر الحكومة، رقم 10 داوننغ ستريت كي يحمله رئيس الوزراء إلى القصر ويرفعه إلى الملكة للتوقيع على تعيين السيدة في منصب الكاتب.
نواب المجلس في حالة غضب وهياج. وقع العشرات خطاب احتجاج ونشروه في الصحف المحافظة، بينما قال رئيس البرلمان إنه ينوي تقسيم مهام منصب الكاتب بين اثنين. كاتب للشؤون الدستورية وإدارة الجلسات والتدوين، ومدير تنفيذي للنواحي الإدارية للبرلمان.
هذا الرئيس، الذي اختاره النواب قبل 6 أعوام، إثر فضيحة التلاعب في المصاريف الإضافية للنواب، أثار الجدل بعزمه على التغيير والتحديث غير المرغوب فيهما؛ وهو أول رئيس للمجلس في 300 عام يخلع باروكة الشعر المستعار وزي نهاية القرن الـ17، ويكتفي بالبدلة الحديثة وفوقها العباءة البرلمانية.. أي كسر التقاليد.. وهو أمر جد خطير في نظر الكثير من النواب، خاصة المحافظين الذين يتوقعون أن يكون تصريح رئيس البرلمان في الثانية والنصف بعد ظهر الغد (الاثنين) إما بسحب ترشيح السيدة الأسترالية (رئيس الوزراء أبقى الترشيح في مكتبه ولم يرفعه للملكة حتى الآن) والعودة للتقاليد القديمة أو يعلن استقالته.
فبريطانيا بلا تقاليد، تصبح مثل سفينة تبحر بلا خرائط أو بوصلة في بحر متلاطم الأمواج.