فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

معادلة مستحيلة؟

«سقطت النخبة وتقدم الشعب»، يقول الناقد السعودي د. عبد الله الغذامي في الحوار المنشور معه في «ثقافة» اليوم. وهو استنتاج صحيح إلى حد بعيد، برز على أوضح ما يكون بعد أن اجتاحنا الربيع العربي. لقد تراجع المثقفون، أو سقطوا، ليس بالمعنى الفردي، ولكن كمنظومة ثقافية حتى ما قبل الربيع العربي بأمد طويل. لقد كتبنا في هذه الزاوية من قبل، ولا بأس أن نعيد, عن حقيقة تنخر الجسد الثقافي العربي، وتحكم تصوراتنا، ليس فقط في نظرتنا إلى النتائج التي أفرزها هذا الحدث الجليل، وهي نتائج لا يمكن غض النظر عنها لشدة سطوعها، وإنما في تعاملنا مع واقعنا عموما، والظواهر التي ينتجها، في عالم يفور كما يقال، وهو فوار جدا الآن في منطقتنا العربية، بشكل خاص. الحقيقة الموجعة، ودعونا نواجهها، أننا نفتقد إلى رؤية فكرية، تقارب الواقع والأسئلة التي يطرحها بشكل شامل، غير تجزيئي وغير توفيقي، مثل ما هو سائد الآن. فرؤية كثير من مثقفينا محكومة بالظرف الآني، وطبيعة العلاقة مع النظام السياسي والاجتماعي هنا أو هناك. ندين ظاهرة في مكان ما، بينما ترانا نسكت عليها في مكان آخر، مع أنها لا تقل هولا. وقد ندخل السجون، ونتجرع المنافي احتجاجا على نظام حكم معين، بينما نصفق لنظام قاتل آخر.
والتفسير واضح هنا. لقد حكمتنا، منذ الخمسينات في الأقل, الآيديولوجيا العمياء، الناقصة، التجزيئية، التي تحاول أن تسقط تصوراتها على الواقع، بدل أن تحاول تفسيره، وفهم قوانينه الخفية، وبالتالي تغييره. ونتيجة لذلك، غابت الثقافة الحقيقية التي تضع الفرد مهما كان دينه وعقيدته ومذهبه، وحقه في الحياة والوجود واختيار قناعاته الشخصية ونمط معيشته فوق كل اعتبار سياسي أو اجتماعي أو فكري، مستندة في ذلك إلى المقومات الأساسية التي راكمتها الحضارة الإنسانية منذ عقود.
غياب هذه النظرة الشاملة انعكس بالضرورة على تقييمنا لظاهرة الربيع العربي. فقد تعامل كثير من المثقفين مع هذه الظاهرة من السطح، وليس في ضوء علم التاريخ، منتظرين أن تحقق نتائج فورية ترضي توقعاتهم الذاتية. وحين لم يتحقق ذلك، ومن الطبيعي أن لا يتحقق في إغماضة عين، أسقطوا رؤاهم الناقصة على مستقبل شعوبنا، وكأن عملية التغيير مجرد انتقال من غرفة لأخرى، أو من منزل لآخر، وليست عملية مضنية مليئة بالدم والدموع، قد تستمر طويلا جدا، وربما لعقود، بين تقدم وتراجع إلى أن تجد طريقها المستقيم، وهي نتيجة حتمية، إذ لا يمكن العودة إلى حيث كنا. شيء تغير في واقعنا وأنفسنا، وإن كان لا يزال غامض الملامح، وتشوبه التشوهات في أكثر من موضع، لكنه حصل. وهي حقيقة صلدة، موضوعية، نكرانها لا يؤدي إلا إلى توكيدها. حدث هذا لكل التغييرات الكبيرة في التاريخ من الثورة الفرنسية حتى الآن، فالتاريخ، كما يقول هيغل، «لا يتجاوز شيئا إلا بعد مواجهته ودفع ثمن هذه المواجهة». المهمة لم تنته بعد، والطريق طويل ويطول.
ويبدو أن الجماهير تعرف ذلك بحسها العفوي. ومن هنا رأيناها تسبق المثقفين في حركتها بعشرة أمتار، بدل أن يسبقها المثقفون بعشرة أمتار. ومن هنا أيضا نستطيع أن نقول : «سقطت النخبة وتقدم الشعب». ولكننا سندخل، من ناحية أخرى، في هوة كبرى.
فمن دون ثقافة تنويرية، حقيقية تزيح مع الزمن ما ترسب من قيم عتيقة، وتبني على أنقاضها قيما جديدة، تتحول بالضرورة إلى قوى مادية حين يمتلكها الناس، وفي مقدمتها تحويل الفرد من كائن هلامي بلا ملامح سوى ملامح القهر والخوف حتى من نفسه، إلى قيمة إنسانية كبرى، يبقى «تقدم الشعب» ناقصا، مهددا، هشا، وقد يعود إلى أعقابه، وكأنه لم يبتدئ، وقد يعيد إنتاج القيم العتيقة نفسها، وإن بلبوس أخر.
هل نحن أمام معادلة مستحيلة؟