وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

رقصُ «الدواعش» على أنغام بايدن

مرة أخرى عاد نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الحديث عن تقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات (سنية، وشيعية، وكردية)، وكلما يتقدم الإنسان في العمر والوظيفة يفترض أن يزداد خبرة ومعرفة وتجربة وليس العكس. غير أن السيد بايدن بقي يدور في دائرة الخطأ والأوهام نفسها، ورغم أن العراق يأخذ حيزا مهما من اهتمامات الإدارة الأميركية، إلا أن السلوك الأميركي بقي قاصرا عن فهم الوضع العراقي، وليست هذه هي المشكلة الحاسمة، بل إن المشكلة تكمن في أن كثيرا من السياسيين العراقيين تعلموا التبعية في المواقف بعيدا عن أبواب الثقافة التي باتت متاحة إلا لهواة التخلف.
كتبنا سابقا عن الأقلمة والفدرلة ومخاطر هذه التوجهات، وأتمنى هذه المرة أن يتوقف السياسيون الأميركيون عن التدخل في رسم مستقبل العراق، وتجنب المساهمة في تحويله إلى كرة نار ستتدحرج إلى كل الاتجاهات. وعلى الأميركيين تجنب التدخل العسكري البري المنفرد أو الثنائي في العراق، تجنبا للانزلاق بحسابات خاطئة وتبديد أموال تتسبب في أزمة مالية عالمية جديدة قد تؤدي إلى انهيارات يصعب تداركها. فالعراقيون قادرون - إذا سلموا من الآراء الأميركية - على دحر «الدواعش» ومن تآمر معهم دون الحاجة إلى مساندة أي طرف، بعد أن يستكملوا إعادة ترتيب أوضاعهم وتجهيز قواتهم.
وعند الحديث عن الفيدرالية يبقى الأكراد خارج المعادلة، لأنهم خطوا طريقهم ويتمتعون بما هو أكثر من المفهوم الفيدرالي، حيث يحصلون على موارد مالية عالية ويتقاسمون مناصب العراق المركزية، فيما يمتنعون حتى عن إتاحة الفرصة للدولة للتعرف على أمنهم وسير أعمالهم! وإذا كان من حقهم رفض أي توجه لتشجيع تقسيم إقليم كردستان إلى إقليم سوران في السليمانية وإقليم بهدنان في أربيل - ولكل منهما لغة خاصة أو لهجة مميزة - فمن حق العراقيين الاحتجاج على تعمد «رئاسة الإقليم» والمتشددين الترويج لثقافة الأقلمة سعيا لتقسيم العراق - خلافا للتوجهات المعتدلة للرئيس السابق جلال طالباني - فالقصة واضحة «حتى لو ارتدى مسؤولو رئاسة الإقليم ربطات عنق سوداء حزنا على سنة عرب العراق»، لكن معظم السياسيين العراقيين ضعفاء وجهلاء!
كثير من شباب السنة والبسطاء يرون في الإقليم والفيدرالية خلاصا من حكم يقول لهم المتأثرون بدعايات موجهة إنه حكم شيعي، وقد أُثري سياسيون سنة بصورة جشعة، ويتحركون في بغداد في راحة تامة دون مضايقة، إلا من باتت أوضاعهم معروفة. غير أن هؤلاء الشباب الطيبين لم يدركوا المخاطر الكبيرة التي تنجم عن الأقلمة. فمن المستحيل أن يشمل سنة بغداد وإلى أقصى الجنوب وسنة ديالى بأي إقليم سني، وقصة سامراء بالغة التعقيد، لأنها كانت ضمن محافظة بغداد حتى عام 1975، فضلا عن وجود نسبة عالية من الشيعة في مدينتي بلد والدجيل القريبتين إلى سامراء، ووجود مراقد الأئمة ووجود سد سامراء الاستراتيجي الحاسم لأمن بغداد وهو معلوم لدى القيادات العراقية العليا. وإذا كان كل هؤلاء خارج نطاق الإقليم، فلمصلحة من تقسيم الشريحة السنية؟
طرح مشاريع التفكيك وشعارات السياسيين الفارين الطائفية أفقدت الشيعة الحماس لتحرير الموصل، فالأصوات بدأت ترتفع قائلة: لماذا يضحي الشيعة بأبنائهم وثرواتهم من أجل تحرير الموصل من قبضة «الدواعش» وأهلها لا يريدون العيش مع الشيعة؟ وهذا سيؤدي إلى تحويل المدن السنية المحتلة إلى كومة من الدمار وكتلة من نار، لأن من دون الحكومة المركزية في بغداد لا يمكن تحرير المناطق المسيطر عليها من قبل «الدواعش». وحتى إذا قامت القوات المسلحة العراقية بتحرير المدن وانسحبت فسوف تسقط مرة أخرى بيد «الدواعش»، ولا تصدقوا ما يقوله تجار السياسة، وقد حذرناهم تحريريا قبل سقوط الموصل ولم ينفع معهم.
الأقلمة والفدرلة مشروع لتقسيم العراق ولتكوين دولة «الدواعش»، وحتى إقليم كردستان سيتحول إلى كرة من نار، لأن موقف الجوار وتوازنات القوى معروفة، فأصدقاؤه بعيدون وخصومه قريبون، ومن مصلحة الشعب الكردي وحقه وصول التغيير الديمقراطي إلى الإقليم أسوة ببغداد، وعلى حكومة بغداد أن تكون قوية بمواقف عادلة. أما السيد بايدن فليته ينظر برؤية تخيلية تتيح له مشاهدة «رقص الدواعش على أنغام مشروعه»، لأنه أفضل هدية لهم، ولو تخيل الأميركيون مثل هذا التخيل لما وقعت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
فرفقا بالعراق، ورفقا بالعالم وأمنه واقتصاده.