سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

البكاء في «رابعة»!

الظاهر أننا لسنوات عدة مقبلة، سوف نكون على موعد في أغسطس (آب) من كل عام، مع حائط مبكى إخواني اسمه ذكرى فض اعتصام ميدان رابعة.
ففي يوم 14 أغسطس 2013، لم تجد الدولة المصرية مفرا من فض اعتصام للآلاف من الإخوان في ميدان رابعة العدوية في منطقة شرق القاهرة.
ومنذ ذلك اليوم، وهناك إصرار أحمق وعجيب، من جانب الجماعة الإخوانية، على تصوير أتباعها الذين كانوا معتصمين في المكان، على أنهم ملائكة، وتصوير أفراد الشرطة المصرية الذين تولوا عملية الفض، على أنهم شياطين.. والحقيقة أن هؤلاء لم يكونوا شياطين طول الوقت وأن أولئك لم يكونوا ملائكة في كل اللحظات.
وعندما أعلنت منظمة «هيومان رايتس ووتش» الأميركية، تقريرها عن فض الاعتصام، يوم 12 أغسطس الحالي، تبين لكل ذي عينين، أنه تقرير منحاز إلى الإخوان، بامتياز، وأن المنظمة الدولية التي توصف في قناة الجزيرة وحدها بأنها حيادية، لا هي حيادية، ولا هي تعرف الحياد، وأن مسألة بناء حياديتها على مجرد دوليتها، في حاجة إلى مراجعة جذرية منا، لأن العكس ربما يكون صحيحا، وهو أنها ليست حيادية لأنها دولية، أولا، ولأنها أميركية ثانيا.
يتكلم تقريرها عن سقوط ضحايا إخوان أبرياء، وعن أنهم كانوا سلميين في أغلبهم، وعن أن الشرطة استخدمت معهم العنف المفرط.. وعن.. وعن.. مما سوف أفترض نظريا أنه صحيح، ثم أسأل عما سكت عنه التقرير عمدا، لا سهوا!
سوف أسأل عن 114 ضابطا وجنديا من بين أفراد البوليس المصري سقطوا أثناء الفض وأثناء توابعه، ولم يأتِ لهم ذكر كما يجب، في تقرير المنظمة «الحيادية»!
وحين أتكلم عن توابع الفض هنا، فإنني أريد أن أشير إلى وقائع حرق 40 كنيسة، وإلى أحداث قطع طرق، وإلى اعتداءات على أقسام شرطة في الأيام التالية لـ14 أغسطس.. ومع ذلك، فإن هذا كله لم يستوقف المنظمة «الحيادية» في شيء، فيما يبدو.. وإلا.. فإن المصداقية التي تنتظرها هي من جانب الناس في تقاريرها، كانت تقتضي منها أن تقول، إن ضحايا سقطوا على الجانبين، وإنها تقف بجانب أهل كل ضحية، سواء كانت من بين الإخوان، أو من بين رجال الشرطة.
وسوف أسأل، ثانيا، عن عدد الإنذارات المتتالية التي وجهتها الحكومة إلى المعتصمين، إنذارا، وراء إنذار، دون جدوى، وكأن الهدف كان في الأصل احتلال المكان لأمد غير منظور، وليس الاعتصام فيه، لتوصيل رسالة إلى الحكومة، ثم الانصراف.. إذ المفهوم أن الاعتصام في النهاية.. أي اعتصام.. إنما هو وسيلة من وسائل يُراد من خلالها أن يقال شيء محدد للسلطة القائمة، وليس غرضا في حد ذاته أبدا.
وسوف أسأل، ثالثا، عن 45 يوما استمر خلالها الاعتصام، وعما إذا كان هناك اعتصام في أي بلد في الدنيا، قد بقي في مكانه، لفترة مماثلة، أو حتى قريبة، ثم عما كانت ستفعله أي حكومة أوروبية أو أميركية بمعتصمين عندها، لو أنهم احتلوا ميدانا عاما، لشهر ونصف الشهر، وأصروا على البقاء، ورفضوا كل رجاء إليهم بالانصراف؟!
وسوف أسأل، رابعا، عن الممر الآمن الذي وفرته الحكومة، صباح يوم الفض، وخاطبت المعتصمين بمكبرات الصوت بأن ينصرفوا آمنين من خلاله، وقد انصرف منه بعضهم فعلا، كما رأينا وتابعنا على مدى اليوم، ثم بقي الذين صمموا على أن يظلوا معتصمين، فتحملوا عواقب تصميم لم يكن في محله، ولا في مكانه، ولا كان مقبولا من حكومة طال صبرها عليهم، بأكثر مما يجب!
سوف أسأل عن هذا كله، وعن موقعه في تقرير المنظمة الدولية «الحيادية» وعما إذا كانت قد التفتت إليه، أم أنها تجاهلته؟!
وسوف أسأل عما إذا كان الذين اتخذوا من اليوم إياه، حائط مبكى، قد علموا أن الحكومة المصرية لم تشأ أن تنتظر إلى أن يصدر تقرير عن فض الاعتصام، من خارج الحدود، فشكلت لجنة مُعتبرة اسمها لجنة تقصي حقائق 30 يونيو.. أي إنها تشمل الثورة بكل ما جاء بعدها، من فض، وغير فض، وليس «رابعة» فقط. وسوف أسأل عما إذا كان الذين اتخذوا من 14 أغسطس حائط مبكى قد عرفوا أن رئيس اللجنة هو الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض، وهو رجل كما يعلم عنه الجميع، لم يكن منتميا إلى أي تيار سياسي، في أي عصر، ولم يكن رجل الحكومة في أي وقت، وكان ولا يزال يمارس عمله كواحد من أهل القانون الكبار باستقلالية تدعو إلى الإعجاب.
إن لجنته توشك على الانتهاء من عملها، وغالب الظن أنها لن تتحامل على طرف، ولن تجامل طرفا على حساب آخر، وليس أدل على ذلك، إلا أن المستشار عمر مروان، المتحدث باسمها، قد قال يوم صدور تقرير المنظمة «الحيادية» إن «تقصي حقائق 30 يونيو» سوف تستفيد من تقرير «هيومان رايتس ووتش» في كل الأحوال.
أريد أن أقول، إن الحكومة في مصر لم تشأ أن تتخلى عن مسؤوليتها إزاء ما حدث، وإن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الدكتور رياض، كان ولا يزال دليلا قويا على أنها مستعدة لتحمل مسؤوليتها كحكومة، بشرط أن يجري التعرض لما جرى في يوم الفض، بأكبر قدر ممكن من التجرد، ومن الرغبة في ذكر كافة الحقائق والتفاصيل، ومن وضع الأمر في سياقه العام الصحيح.
فالأمانة من جانب أي محقق في القضية، تقتضي منه أن يذهب إليها، وهو مفترض ابتداءً أن كل الذين سقطوا فيها إنما هم مصريون في النهاية، سواء كانوا من هذا الجانب، أو من ذاك، وأن حق كل ضحية سقطت في ذلك اليوم، دون وجه حق، لا بد أن يظل محفوظا.
تحويل القصة إلى حائط مبكى إخواني، لن يفيد في شيء، لأن لها وجها آخر يجري إخفاؤه عن قصد، ولا بد أن يوضع بجانب وجهها الإخواني، وعندها، سوف نكون بإزاء قصة موضوعة، رغم حجم الألم فيها، على الجانبين، في إطارها الطبيعي.