باقر النجار
TT

الحاضنة الاجتماعية للجماعة السلفية

رغم أن الجماعات السلفية المختلفة تنهل من ذات المعين الفكري والآيديولوجي، فإنها قد تختلف عن بعضها البعض في درجة نزوعها للعنف، وفي درجة موقفها النافي للمختلف الديني والفكري، والمتمثل في بعض قياداتها الفكرية الجديدة، فإن الفعل الذي بدت عليه طالبان سابقا، والجماعات السلفية في العراق وبلاد الشام وأفريقيا، قد أثار التساؤل حول ما إذا كان هذا الفعل يمثل فعلا شاذا فيها أم أنه يمثل التيار الأوسع والسائد في الحركة السلفية بشكل عام؟
ودون شك، فقد شكلت الجماعة الطالبانية والداعشية التمثلات الجديدة للجماعة السلفية والقادرة على استقطاب أعداد كبيرة من الشباب المسلم للانخراط في فعلها «الجهادي» في بلاد الشام، شكلت منطقة الخليج أحد مراكز الثقل فيها، بل إن أعداده في صفوفها قد بات بالآلاف.. وهي الجماعة/ الجماعات الأكثر قوة وحضورا وتناميا في الكثير من المجتمعات الإسلامية من الباكستان وأفغانستان شرقا حتى مالي ونيجيريا في أفريقيا غربا، وهي وإن بدت جماعة تنزع نحو أن يكون العنف أداتها الرئيسة في التغيير، إلا أن بعضها الآخر والقليل بات مدركا أن العنف لن يأتي إليها بدولة الخلافة، رغم قدرة جماعاتها الجهادية على تحقيق ذلك حتى الآن في أجزاء من صحراء ومدن الجنوب السوري والوسط العراقي وفي مناطقها القبلية المُغلقة في أفغانستان والباكستان، ولربما في أجزاء من جنوب وشمال اليمن، وفي أرجاء من الصومال ومالي ونيجيريا، فهذه الجماعات قد تكون قادرة على أن تقيم إمارة إسلامية، إلا أنها قد لا تستطيع أن تجعل منها دولة قابلة للحياة إذا لم تتعايش مع العالم، وقبل هذا وذاك إذا لم تتعايش مع الداخل المختلف منها قبل أن تكون قادرة على التعايش مع الجوار والعالم، فالتجربة اليتيمة لإقامة دولة لهذه الجماعة السلفية كانت في أفغانستان، وهي في ذلك رغم قدرتها على بسط سيطرتها المطلقة على أجزاء كبيرة، وقت ذاك، من أفغانستان، واعتراف 3 من دول العالم بها، فإنها قد عجزت على أن تقيم دولة قادرة على الحياة، فسقطت في أول اختبار لها مع العالم، بل إنها كانت عاجزة عن التعايش مع تماثيل بوذا التي دمرتها، فسقطت هي بعد ذلك.
فالجماعة السلفية ذات طبيعة سياسية وثقافة دينية محافظة، بل شديدة المحافظة، بل إن ممارسات جماعاتها من القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها، الدموية ولربما اللاإنسانية، في العراق وسوريا واليمن وتونس والجزائر ونيجيريا، يعكس حقيقة أنها جماعة قد باتت لا ضوابط أو حدود إنسانية أو أخلاقية أو شرعية لها.
ومثلت التضامنيات القبلية والجماعات الاجتماعية المحافظة حواضنها الرئيسة، والتي تعكسها حالات انتشار الجماعة السلفية في أوساط الجماعات القبلية الأفغانية الجنوبية أو الجنوبية الشرقية، الذي يمثل الشمال الباكستاني امتدادها، ليس فحسب الجغرافي، وإنما القبلي كذلك، والذي منه باتت تستمد قوتها الاجتماعية والسياسية. كما أن الاختراقات التي تُحدثها طالبان في صفوف الجيش والأمن الأفغاني إنْ هي إلا اختراقات تحدث بفعل المعطى القبلي، وليس السياسي أو الآيديولوجي، بل إن سيطرة القوات الداعشية على محافظة الموصل والغرب العراقي، قد جاء بفعل تلك الاختراقات الواسعة للمكون القبلي في شمال العراق وغربه.
إن ما يدعم التعاون الدائم بين ما يسمى بطالبان الباكستاني وطالبان الأفغان، ليس في كون الأول هو صنيعة الآخر أو أن الآخر وليد الأول، أو في تماهيهما الآيديولوجي أو الفكري؛ أي إنها قوى تتغذى من المعين الفكري والآيديولوجي نفسه، وإنما من حقيقة أن تماهيها أو تداخلها القبلي قد وحدها أكثر منه التماثل الفكري أو الآيديولوجي، بل إن قدرتها على الاستمرار نابعة من حقيقة أن حاضنتها الاجتماعية؛ القبلية أو الريفية، بات يمثل مُعينها البشري قبل أن يكون مُعينها الآيديولوجي.. وبالمثل فإن قوة الجماعات السلفية في المجتمع العراقي والسوري كان في البوادي، ولربما في الأرياف منها في الحواضر وهي في أطراف المدن الفقيرة أكثر حضورا منها في مراكزها الكوزموبوليتية.. ولذلك فقد مثل الجنوب والجنوب الشرقي السوري والوسط والغرب العراقي بامتدادته القبلية، حاضنتها الاجتماعية الأساسية، كما مثل الجنوب الأردني البدوي وقبائل سيناء في مصر حاضنتها الاجتماعية. فالقائد السلفي اليمني - الأميركي المعروف، أنور العولقي، الذي طاردته القوات الأميركية حتى اغتالته، قد عاش برهة من الزمن مطاردا لم تحمه الدولة أو الجماعة السياسية، وإنما حمته القبيلة رغم عدم اتفاقها مع الكثير من أفكاره السياسية وتفسيراته الدينية المتشددة.
وفي الحديث عن موقع الوطن عند الجماعة السلفية، فإنه يمكن القول إن الحالة الطالبانية السابقة في أفغانستان قد مثلت بالنسبة للبعض من القوى السلفية في إطارها الجهادي، أكثر من ملاذ آمن لها في مواجهة أنظمتها السياسية المباشرة أو القوى الدولية. ويمتد ذلك ليشمل بعض العرب ذوي التوجهات السلفية المتماهية مع الفكر والآيديولوجيا الطالبانية؛ مما جعل من أفغانستان وطنا لهم، بل إننا قد وجدنا نزوعا عند بعض العرب والآسيويين من المهاجرين إلى أوروبا نحو الهجرة والاستقرار في أفغانستان إبان الحكم الطالباني، نتيجة لهذا التماهي الفكري والآيديولوجي من ناحية، ونتيجة لرغبتهم في أن ينشئوا أبناءهم كما يقولون في «بيئة إسلامية محافظة»؛ أي أن يجعلوا من أفغانستان وطنا لهم ولأبنائهم رغم افتقارها لأسباب العيش الرغيد.
من الناحية الأخرى، فإننا نعتقد أن إعلان «دولة الخلافة الإسلامية»، في هذه الرقعة الجغرافية المحددة لم يأت نتيجة لسيطرة القوى السلفية على المناطق المتداخلة بين الجنوب السوري وشمال الوسط والغرب العراقي، أو أن تكون هذه الجغرافية حاضنة طبيعية وتاريخية للعراقيين السنة فحسب، وإنما لحقيقة أن هذه الجغرافية تمثل حالة التشابك بين الجماعات القبلية صاحبة الأرض والقوى والجماعات السلفية الوافدة إليها، وهي القبائل والعشائر التي أصبحت مع الوقت الحاضن الأساسي للقوى السلفية في العراق وسوريا في ثوبها «الجهادي»، وهي قوى وبفعل بنائها الفكري والآيديولوجي والقبلي يتدنى لديها مفهوم الوطن لصالح مفهوم القبيلة؛ أي إن هناك قدرا من التماهي بين القيم القبلية والبناءات الثقافية للجماعات السلفية.. وهي حالة تماثل ذلك التداخل والتماهي الحاصل بين القبائل الباكستانية والأفغانية من ناحية، وبينها وبين الجماعات السلفية في ثوبها الطالباني من ناحية أخرى. كما أن هذا يفسر الاحتضان القوي للجماعات القبلية في شبه جزيرة سيناء للسلفية الجهادية، عنها أن تكون حاضنا لجماعة الإخوان المسلمين، بل إن جماعة الإخوان اعتمدت على الجماعة السلفية في «الترويض» من مواقف الجماعات القبلية في شبه جزيرة سيناء تجاه السلطة عندما كانوا في السلطة إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وينسحب مثل هذا القول على ليبيا واليمن والجزائر وعلى المحافظات الجنوبية في الأردن. وأن يكون مركز الثقل للجماعات السلفية الكويتية في أوساط الجماعات القبلية الكويتية في الدائري الرابع والخامس عنها في حواضرها في الدائري الأول والثاني. وهي حواضن تتداخل عوامل شتى اجتماعية واقتصادية وثقافية، ولربما دينية في أن تكون حواضن اجتماعية للجماعات السلفية الجديدة عنها من أن تكون حواضن للجماعات الإسلاموية.. بمعنى آخر، فإن مفهوم الأمة يمثل الأطر المشكّلة لفكر وممارسة الجماعة السلفية، التي باتت تعد كل بلاد المسلمين فضاء مفتوحا لنشاطها الدعوي وعملياتها السياسية، بل إن تنظيماتها المختلفة باتت تنظيمات أممية؛ ليس من حيث هذا التنوع الإثني للمنخرطين في عملياتها السياسية أو الجهادية، وإنما على أساس أن كل بلاد المسلمين أوطاني، وهذا يفسر كبر حجم الانخراط الأممي في «حركاتها الجهادية».
وخلاصة القول إن الطبيعة الآيديولوجية المحافظة للجماعات السلفية ذات المنشأ الثقافي الصحراوي، قد التقت مع الطبيعة البدوية والقبلية بصفتها جماعة حاضنة في كل المناطق التي شهدت حضورا مكثفا لها. وهي سياقات اجتماعية وثقافية لم يتشكل في سياقها الثقافي وبشكل كاف وعي كامل بالوطن.. بل إن الحضور الكثيف للمقاتلين من الإثنيات غير العربية: الشيشانية والآسيوية والأفريقية والأوروبية يؤكد، ليس فحسب أنها قوى عابرة للحدود والإثنيات، وإنما هي قوى بات الوعي بالأمة في سياقه العام يسبق لديها الوعي بالوطن في أطره الجغرافية المحددة.