علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

الميري وترابه

لا بد أن آلاف السنين من الحكم الأجنبي في مصر، قد شقت طرقا وأخاديد تتسم بالوعورة وعدم الاستواء في خريطة الشخصية المصرية، علينا أن نقوم باكتشافها. ليس بهدف البحث العلمي أو حتى الفضول، بل لكي نتخلص من كل آثارها السلبية التي لا شك أنها تعوق مسيرتنا. وكما يقول علماء التحليل النفسي «المعرفة لا تشفي»، وهى مقولة صحيحة بالفعل، غير أن المعرفة ضرورية كبداية لتشخيص أي مرض. بعد ذلك يبدأ العلاج الذي يتطلب أول ما يتطلب الرغبة في الشفاء والعمل على ذلك بجد وإصرار.
عندما تحكم لآلاف السنين بحكومات أجنبية، فلا بد أن جهازك النفسي سيكون شاغله الشاغل هو حماية نفسك من هؤلاء «الأجانب»، وفي الوقت نفسه ستتكون لديك رغبة قوية ودائمة في استحلال كل ما تستطيع أن تطوله منها. هذه صورة سريعة أرسمها للعلاقة بين المصريين وحكوماتهم القادمة من بلاد أجنبية. ولكن القوات الأجنبية لم تعد تحكم، المصريون فقط هم من يحكم مصر منذ أكثر من نصف قرن. وهي فترة زمنية لا تكفي لاستيعاب فكرة أننا نحكم أنفسنا الآن، هل تعرف نظرية «الشوربة والزبادي» التي تقول: «اللي يتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي». لقد تعود المصري أن تلسعه كل حكوماته على مدى آلاف السنين، لذلك هو لا يصدق الآن أن حكومته تقدم له الآن الزبادي. العلاقة بينهما هي الشك الدائم والخوف، إنه كما ترى ميراث طويل.
وعندما ننتقل إلى الضفة الأخرى سنجد ما هو أخطر، وهو أن عضو الحكومة المصري غير الأجنبي يتوحد في سلوكه وطريقة تفكيره بالحاكم الأجنبي، أي ينظر للمصريين نفس نظرة الحكام الأجانب الذين سبقوه، ويتعامل معهم على هذا الأساس.. هذه هي المشكلة كما قال هاملت من قبل.
شعب لا يثق في حكومته وحكومة تشعر بالخوف من شعبها وترغب طول الوقت في حماية نفسها منه. عدم الثقة المتبادل بين الطرفين يدفع الحكومة طول الوقت لمحاولة إرضاء الشعب بنفس الطريقة التي تحاول بها إرضاء طفل شرس: إيه رأيك في المشروع ده يا حبيبي؟.. طب خد المشروع ده كمان.. دوق، حلو مش كده؟.. ده انت أحوالك حا تبقى نغنغة.. ليس لنا صلة بالمتاعب التي تعانيها الآن.. ده الأوغاد الأجانب وأميركا اللي عاوزين يقسموا مصر ويفتتوا مصر لأنهم بيغيروا مننا وعارفين إننا لو وقفنا على رجلينا حا نسوي الهوايل.. بس ولا يهمك.. عارف ليه؟ لأن مصر فوق الجميع..
من أكثر الأمثلة الشعبية بلاغة في مصر ذلك المثل الذي يقول: «إن فاتك الميري.. اتمرغ في ترابه» إذا وافقنا على أن هذا المثل يمثل مقولة حقيقية عند المصريين، فمعنى ذلك أن التيار الفكري السائد في مصر سيعمل على ألا يفوته القطاع العام، وإذا فاته فسوف يتمرغ في ترابه.
جريدة مصرية خاصة، بمناسبة زيارة الرئيس السيسي لموسكو، قالت في عنوان بالخط العريض في الصفحة الأولى.. «الرئيس يناقش مع بوتين كيفية الارتقاء بالقطاع العام».
محرر الخبر لا يعرف أن الرئيس المصري في زيارة لروسيا وليس للاتحاد السوفياتي الذي مات ومات معه القطاع العام.. إن مشكلة مصر الحقيقية هي وجود القطاع العام وعلى الدولة أن تكون جادة في التعامل مع هذه المشكلة، حتى لو اضطرت لبيع مصنع ما بجنيه واحد.