د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

قوة موحدة للانتشار السريع

أصبح واضحا لكل عين ترى، وأذن تسمع، وعقل يفهم، أن الدولة العربية باتت موضع تهديد لوجودها ذاته. ولم يحدث ذلك نتيجة غزو أجنبي أو نتيجة كوارث طبيعية، وإنما بسبب ثورات داخلية أولا، ونجم عنها ثانيا تغلغل منظمات إرهابية تريد أن تقلب الدولة والإقليم رأسا على عقب. ما فعلته «داعش» أخيرا في العراق وسوريا منذر، وما فعلته الميليشيات الإرهابية في ليبيا مفزع، وما حققته جماعات وعصابات في اليمن موجع. كيف حدث هذا؟ سوف يحتاج لكتائب من المؤرخين والباحثين السياسيين لمعرفة الكيفية التي حدث بها هذا خلال الفترة القصيرة الماضية، التي لم تزد عن ثلاث سنوات ونصف السنة. المشاهد المقبلة من ليبيا، وما يحدث في جنوب الجزائر وتونس، وفي سيناء المصرية، وبالطبع في سوريا والعراق واليمن وفلسطين، وما يضاف له في السودان والصومال، كله يؤكد على أن الزلزال لا يزال على عنفوانه، ولن يهدأ ما لم تجرِ الهزيمة الكاملة لهذا التيار المدمر.
صحيح أن هناك أشكالا كثيرة من المقاومة جارية على قدم وساق، فقد أفلت الأردن والمغرب بوسائل إصلاحية وسياسية من مصير انهيار الدولة، ونجحت دول مجلس التعاون الخليجية في تحييد الهجمات التي وردت إليها، وأكثر من ذلك، أوقفت المؤامرة على دولة البحرين، وكانت ثورة يونيو في مصر، ومساندة الجيش المصري لها مع السعودية والإمارات والكويت عكسا لتيار تدمير الدولة في دولة عربية مهمة. ولكن كل ذلك لا يعني أن الخطر قد انتهى، أو أن التهديد قد انحسر، وما جرى من نصر أو هزيمة خلال الفترة الماضية، كان نتيجة معارك في حرب لا تزال على عنفوانها بين الدولة العربية والإقليم العربي كله في جانب، والتنظيمات الإرهابية الراديكالية التي لم يرد على المنطقة مثيل لعنفها ووحشيتها وبربريتها، في جانب آخر.
الاقتراح الذي نحن بصدده للتعامل مع هذه الحرب هو ضرورة تشكيل قوة عسكرية عربية للانتشار السريع، تتعامل مع الخطر المقبل أينما وُجِد، سواء في شمال مالي أو في أي من البلدان العربية التي باتت حدودها مخترقة لأشكال مختلفة من الإرهاب. وما جرى على الحدود السورية - العراقية ليس هو المثال الوحيد، بل إنه يجري على الحدود المصرية - الليبية، واليمنية - السعودية، والمالية - الجزائرية - التونسية - الليبية، والعراقية - الأردنية، وهكذا حيث البر والبحر فيه من المنافذ على الشواطئ، مما يجعل تقويض الاستقرار قائما طوال الوقت. والحقيقة حتى الآن أن الدولة العربية باتت في موقع الدفاع أو رد الفعل للهجمات الواقعة عليها، التي لا تتورع عن القتل الجماعي للعسكريين والمدنيين، أو تدمير البنية الأساسية وإضعاف كفاءتها؛ سواء كانت طرقا، أو سككا حديدية، أو محطات للكهرباء، أو نهب أموالها، كما جرى في مدينة الموصل بالعراق. هنا، فإن الانتقال من الدفاع إلى الهجوم ليس واجبا استراتيجيا فقط، وإنما هو الوسيلة للنجاة والنجاح. وبصراحة، لا يمكن لنا أن نعتبر الغرب سببا فيما جرى لنا، ثم بعد ذلك نتوقع منه أن يكون هو الذي يبادر بالهجمات الجوية لمقاومة هجمات جماعات الإرهاب في البلاد التي دمرها من قبل. وما لم نأخذ الأمور بأيدينا، فإننا سوف نظل أسرى لرغبات الدول الغربية، والضغوط الصينية - الروسية، والأوضاع السياسية الداخلية هنا أو هناك، التي تعمل في غير صالحنا في معظم الأحوال.
الفكرة ببساطة هي إنشاء قوة عسكرية عربية فعالة تُقدّر بفرقتين مدعمتين بما يلزم بأجهزة المعاونة المخابراتية، وسلاح الجو المتعدد الأغراض، مع إدارة سياسية وعسكرية قادرة على المبادرة واتخاذ القرارات.
المسألة ليست جديدة تماما على الفكر العربي، فقد تكونت قوة عربية تحت قيادة موحدة لتحرير الكويت من قبل، كما تكونت قوة من دول مجلس التعاون الخليجي لإنقاذ البحرين، وقامت كل من الإمارات وقطر والأردن بتفويض من الجامعة العربية بالمساهمة في إنقاذ ليبيا بعد ثورتها، ومن المنطقي أن نتوقع أن هناك أشكالا كثيرة من التنسيق والتفاهمات التي تجري بين دول عربية لمواجهة الخطر الماثل. هذه الأشكال من التفاهمات والتنسيق تتميز بالمرونة، ولا يوجد فيها من التزام إلا مواجهة إلحاح الخطر، ومن ثم فإنها تمثل الشكل المفضل للتعاون. كل ذلك جيد لكسب معركة أو تحسين الأحوال، في حالة من الحالات، ولكنه لا يكفي لكسب الحرب وانتصار الدولة العربية، بل إن فيها بعض الوهن الاستراتيجي، لأن استراتيجية المعارك المنفصلة تكفي لإرهاق الدولة العربية، وتعطي لجماعات ومنظمات الإرهاب الفرصة للدعاية وادعاء النصر، فمهما خسرت وأصابها الضعف، فإن مجرد بقائها يُعد نصرا في حد ذاته. فالبقاء بالنسبة لها يعني القدرة على الانتقال إلى مسرح عمليات آخر، ويعني ببساطة تحت رداء «المظلومية» مزيدا من التجنيد وجذب الاهتمام العالمي. هنا، فإن السعي المطلوب يكون لتقويض وقطع دابر هذه العصابات، الذي لا يجري إلا من خلال إجراءين؛ القوة العسكرية التي يمكنها العمل من خلال تفويض من الجامعة العربية، أو تفويض من مجلس الأمن، أو بالمشاركة مع قوى عالمية أخرى. والقوة الفكرية والآيديولوجية للدولة العربية الوطنية، لأن الدين الإسلامي جرى اختطافه لصالح هذه الجماعات والمنظمات، وبات أكثر أسلحتها فاعلية في تجنيد وحشد الشباب وتبرير العنف والجنون الذي يقومون به.
تجديد الفكر الديني لم يعد قضية تتعلق بالتوصل إلى صحيح الدين في سماحته وتسامحه فقط، وإنما بات قضية إنسانية لها علاقة بحالة الإنسان المسلم داخل العالم العربي وخارجه. هذه المهمة لا تستطيع دولة عربية واحدة القيام بها، وإذا كان الإرهابيون يمدون نفوذهم عبر حدود العالم الإسلامي لإقامة ما يرونه «خلافة إسلامية»، فالأحرى أن تتحالف الدول العربية لإقامة المجتمع الإسلامي القادر على التحديث، والمشاركة في الحضارة الإنسانية، والسباق العالمي، من أجل التقدم العلمي والتكنولوجي.
بالطبع هناك أمور أخرى فيها الدبلوماسية والإعلام والسياسة والاقتصاد، وبناء التحالفات وجذب الأصدقاء، ولكن كل هذه الأمور لا تكون فعالة ما لم توجد القوتان المشار إليهما، لأنهما الدليل على المصداقية والتصميم على كسب الحرب وليس مجرد معركة من المعارك.
في هذه الحالة، فإن الأدوات المشار إليها تكون فعالة هي الأخرى، لأنها سوف تساهم في حشد الموارد وتنميتها، ساعتها سوف يعرف العالم مدى جديتنا في مواجهة الخطر، كما أنه سوف يعطي الثقة لأصحاب المهارة منا للمشاركة في كفاح جماعات مضادة للإنسانية، أما شركاتنا والمستثمرون منا، فإن شروط التنمية سوف تتوافر، لأن التوقع السائد سوف يكون أن الانتصار في الحرب لا ريب فيه. والحقيقة هي أنه كثيرا ما تُحسم الحروب ساعة معرفة أن توازن القوى قد تغير إلى غير رجعة.