د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

ميزان الاعتدال في النصائح الطبية

تحتاج الأوساط الطبية إلى إدراك وفهم الأسس التي تبني عليها نصائحها وإرشاداتها الطبية والصحية للمرضى وعموم الناس الأصحاء. والأوساط الطبية تلتفت إلى شأن معين بأن له علاقة بالصحة بناء على ملاحظة تأثيرات إيجابية أو سلبية له على نشوء الإصابة بأمراض معينة أو الوقاية منها أو معالجتها، مثل ملاحظة أن ارتفاع ضغط الدم قد يتسبب بالإصابة بأمراض شرايين القلب، وأن الحفاظ على قراءات طبيعية لقياس ضغط الدم يحمي من احتمالات الإصابة بتلك الأمراض في الشرايين وأنه أيضا من وسائل معالجتها.
وثمة عناصر أخرى من قائمة عوامل خطورة الإصابة بأمراض شرايين القلب، مثل ارتفاع الكولسترول الكلي وارتفاع الكولسترول الخفيف وانخفاض الكولسترول الثقيل وارتفاع الدهون الثلاثية، تحتاج إلى توضيحات في كيفية العمل على جعل قراءات قياس تلك العناصر ضمن المعدلات الطبيعية. ولا تزال مسائل تحديد المدى الطبيعي المقبول صحيا والثابت الجدوى في الوقاية من أمراض الشرايين ضمن المسائل التي تحتاج إلى مزيد من البحث وخاصة في جوانب تحديد إلى أي مقدار علينا خفض الكولسترول الخفيف ورفع الكولسترول الثقيل وخفض الدهون الثلاثية.
ويعد تناول الملح عنصرا مهما في شأن الوقاية من الإصابة بارتفاع ضغط الدم ومعالجة حالات ارتفاعه، ولاحظت الأوساط الطبية أن لعنصر الصوديوم دورا في هذا الأمر. ولذا وضعت إرشادات ونصائح طبية تحدد كمية للملح يُمكن تناولها خلال اليوم ما بين 1,5 إلى 2,4 غرام أي ما يُعادل أقل من نصف ما يملأ ملعقة الشاي. وتحديدا تشير رابطة القلب الأميركية إلى أن تناول كمية أقل من 1,5 غرام هو الصحي لسلامة القلب ومكوناته.
والواقع أن تحديد كمية الكولسترول من الغذاء أن تكون أقل من 300 ملغم في اليوم لم يكن مبنيا على دراسات أثبتت أن تناول أعلى من 300 ملغم في اليوم هو بالفعل ضار، بل جرى تقديرها وفق مراجعات طبية لمكونات وجبات الطعام الأميركية في ستينات القرن الماضي حينما جرى التنبه لأول مرة أن ثمة علاقة سلبية لارتفاع الكولسترول وارتفاع الإصابات بأمراض القلب. وكذا في شأن الملح جرى تقدير حسابات كمية احتياج الجسم اليومية وعدم تجاوزها في الزيادة، ولكن لم تتم دراسة تأثيرات الالتزام بخفض تناول كمية الصوديوم على سلامة الجسم.
وضمن عدد 14 أغسطس (آب) من مجلة نيو أنغلاند الطبية New England Journal of Medicine، نشر الباحثون الكنديون نتائج دراسة «بيور» حول تناول الملح. ودراسة «بيور» Prospective Urban Rural Epidemiology هي دراسة عالمية شملت أكثر من 100 ألف شخص من 18 دولة، وتم فيها بالنسبة لشأن الملح دراسة تأثيراته الصحية على ثلاثة أمور: مقدار ضغط الدم، احتمالات الوفاة، احتمالات الإصابة بأمراض القلب. وتم قياس كمية الملح المُتناولة بشكل يومي بناء على تحليل البول وحساب كمية الصوديوم فيه.
ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن «التقليل الشديد» في تناول الملح ربما يكون له تأثيرات ضارة على الجسم، وعلى وجه الخصوص على صحة القلب! وبشكل أدق، لاحظ الباحثون أن تناول ما بين 3 إلى 6 غرامات من الصوديوم، أي ما يُعادل 7,5 إلى 15 غراما من ملح الطعام، مرتبط بأدنى نسبة للإصابة بأمراض القلب مقارنة بكمية أعلى أو كمية أدني. وهي في الحقيقة نتائج تخالف الإرشادات والنصائح الطبية.
وأشار الدكتور أندرو منتي، الباحث الكندي المشارك في الدراسة، إلى أن 5 في المائة فقط من الناس في العالم يلتزمون بنصيحة تناول الملح وفق الإرشادات الطبية المعروفة، ما يعني أن غالبية الناس لا يستطيعون الالتزام بهذه النصيحة الصارمة. وهو ما يعني أن ربما ليست صحيحة عمليا بدليل عدم إمكانية تطبيقها والالتزام بها وفق احتياجات أجسام الناس في العالم.
وأضاف أن 80 في المائة من كمية الصوديوم التي نتناولها عادة يوميا لا تأتي من الملح الذي «ننثره» على الطعام بالملاّحة أو نضيفه أثناء الطهو، بل هو من الصوديوم الذي يُضاف أثناء إعداد مكونات الأطعمة، كالملح أو مركبات أخرى محتوية على الصوديوم تُضاف للخبز أو للحوم المُصنعة والمبردة والمشروبات وسندويتشات الهمبرغر. ومعلوم أن المركبات المحتوية على الصوديوم ليس بالضرورة مالحة الطعم. هذا بالإضافة إلى إشارة دراسات أخرى إلى أن 35 في المائة فقط من الناس يتأثرون بالملح في شأن ضغط الدم لديهم.
والواقع أن النصائح والإرشادات الطبية، وخاصة في الشؤون المتعلقة بالتغذية والتي كثيرا ما يصعب تطبيقها، يجدر أن تُعاد دراستها بشكل أدق، وتحديد ما هي جدوى الالتزام بها. وهناك عدة أسباب تفرض ذلك، منها أن بعضا ممن يلتزمون بها يُصابون بالأمراض التي فرّوا منها باتباع تلك النصائح، وهو ما يُشعرهم ويُشعر غيرهم بالإحباط والتساؤل عن مدى تأكد الأطباء من حقيقة ما ينصحون الناس به. ومنها أيضا احتمال تسبب الخفض الشديد لنسبة وجود مواد معينة في الجسم، في آثار صحية سلبية، مثل الأسئلة العلمية حول جدوى الخفض الشديد لنسبة الكولسترول، أو خفض مقدار ضغط الدم لدى كبار السن وغيرهم عن مقدار 140 ملليمترا زئبقيا للضغط الانقباضي، أو خفض نسبة السكر لدى مرضى السكري بشكل شديد لا جدوى ثابتة علميا منه.
ولذا ثمة حاجة حيوية اليوم لأن تراجع الأوساط الطبية إرشاداتها ونصائحها كي تكون ممكنة التطبيق وكي تكون أيضا مفيدة وغير ضارة، وذلك عبر وضع موازين محددة لما هو الاعتدال الذي يُنصح به طبيا في تناول الملح أو تناول الدهون أو تناول الكولسترول أو تناول السكريات أو تناول المشروبات الغازية أو تناول الألياف أو خفض نسبة الكولسترول في الجسم أو أدنى حد مقبول لضغط الدم لدى امرأة في الثمانينات من العمر وغيره.

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]