علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

الدولة والإنسان الفرد

تجارب البشر في حكم أنفسهم طويلة ومتعددة، وفي طريقهم الطويل عرفوا أنظمة كانوا على يقين من أنها تحمل لهم الخير والرفاهية وتوفر لهم العدل.. غير أنهم بعد سنوات تطول أم تقصر، كانوا يكتشفون مدى بُعد هذه الأنظمة عن تحقيق آمالهم.. كانت أهم الأخطاء التي وقعت فيها هذه الأنظمة هي اعتماد المعاني الكلية بوصفها تعني أشياء غير محددة، وأقصد بالمعاني الكلية هنا: الشعب.. الجماهير.. القومية.. وما إلى ذلك من ألفاظ لا معنى محددا لها، وإن كانت قادرة على إلهاب خيال معظم الناس وعدد كبير من المثقفين غير العمليين.
ولأنه في نهاية الأمر لا يصح إلا الصحيح، كان الصحيح هو نهاية كل الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تستند في بنيانها إلى المعاني الكلية مثل الماركسية اللينينية، والأنظمة القومية الفاشية في إيطاليا، وألمانيا، لنصل في النهاية إلى الأنظمة التي تحكم الغرب الآن، والتي تتعامل مع مجتمعاتها بوصفها تجمعات مكونة من أفراد. أخيرا اكتشفنا أن الفرد هو عمود الخيمة في المجتمعات الحالية، الفرد هو عماد الدولة وسندها.. ترقية هذا الفرد وحمايته وفتح كل الطرق أمامه، هو الهدف الأسمى للدولة.
الإنسان الفرد هو الذي يدخل إلى المستشفى ليتلقى علاجا، هو الذي يقف أمام القاضي منتظرا العدل، هو الذي يتزوج وينجب أطفالا يتحولون في ما بعد إلى مشاعل مضيئة، أو أعضاء في «داعش». الإنسان الفرد هو القادر على إجراء عمليات البحث العلمي داخل معمله ليخرج بنتائج مبهرة تخدم البشر.. الإنسان الفرد هو التاجر الأمين، والموظف العام الذي يؤمن بدوره في خدمة الناس.. هو الطبيب الناجح، هو المدرس الكفء، هو العامل الماهر.. إنه الإنسان الفرد يا سادة.. وليست «الجموع» و«الشعب» وبقية الألفاظ التي لا تعني شيئا.
ليس هذا درسا في السياسة، فدروس السياسة توجد في أماكن أخرى، أنا أنقل لك فقط تجربتي بصفتي إنسانا فردا تصادف أن عاش في ظل الاشتراكية والقومية وإنكار أهمية الإنسان الفرد، ثم استمر يحيا في بلده بعد انهيار ذلك كله، أي بعد سقوط سور برلين الذي سقطت مع حجارته كل المعاني الكلية التي استخدمها الحكام السلطويون أداة للسيطرة على الناس.
وفي المقابل، الدولة مسؤولة مسؤولية كاملة عن حماية هذا الإنسان الفرد، هي على استعداد لإرسال قطعها البحرية لإنقاذه، على استعداد لإرسال طائراتها للبحث عنه في الصحراء.. ستتولى حمايته لأنها تعرف أنه الإنسان الفرد الذي سيتولى حمايتها في كل مجال.
من أكثر الأشياء غرابة، أن يقول لي أحد المحسوبين على الثقافة: «أصل أنا قومي عربي..»، لست أعرف بالضبط ماذا يقصد بهذه الكلمات، ويتساوى عندي أن يقول: «أنا شعكبوس أصلي..»، أو «أنا شعكبوس من شعكابيس العالم (التالت).. وإنني على استعداد دفاعا عن القومية العربية، أن أفشفش الهوامش الاستعمارية والإمبريالية».
لقد عرفت هؤلاء جيدا.. كانوا زملاء لي.. وبعضهم كان يوجه لي تهمة الميول الإمبريالية عندما كنت أحدثه عن أهمية دور الفرد في التاريخ.