سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مدن الصيف: السندباد في السودان دون إذن

إذن كانت القاهرة لا تزال قليلة الازدحام لم تنقلب إليها بعد كل مصر. ولِمَ لا؟ أليست هي مصر؟ وهل تعتقد أن أهلها عندما يدللونها بـ«أم الدنيا» يقصدون بور سعيد وسوهاج والوجه البحري؟ لم يكن قد زحف عليها ملايين العشوائيين العاثري الحظوظ، الذين يرون في كل زائر مشروع «رزقة» صغيرة، فيغرقونه باللطف والكياسة والألقاب التي لم تقوَ عليها 23 يوليو (تموز)، وبقيت جزءا من الخلطة السحرية وهو يحاول أن يبيعك برج القاهرة أو الهرم الذي في الوسط: يا باشا، يا بيه، نورت الدنيا.
وكان العمالقة لا يزالون يملأون حياة مصر وحياة العرب حضارة وثقافة وعبقريات: طه حسين، العقاد، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، عبد الرحمن بدوي، فكري أباظة، بنت الشاطئ، يحيى حقي، محمد التابعي، وغيرهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم.
كانت مصر هي الأدب وهي الصحافة وهي الفن ولم يكن على صحافي ناشئ مثلي سوى أن يحاول إجراء المقابلات ليعود بها إلى بيروت، المنبهرة مثل بقية العواصم، بالعصر المصري الطاغي على نواحي الحياة العربية.
كانت بيروت، بسبب طموحاتها وآفاقها وحرياتها، قد بدأت تشترك في شيء من وهج مصر. فيروز تفتح باب الأغنية القصيرة، ومحمد عبد الوهاب يقول عن وديع الصافي إنه أجمل صوت في الأرض، والعرب خارج لبنان يقرأون «الحياة» وكامل مروة، و«النهار» تلمع متجاوزة حجم لبنان، تنيرها مستقبليات غسان تويني، و«جعبة» سعيد فريحة تتألق في بلاد العرب وديار الظرف.
وكانت بعض الأسماء مثل بعض المعالم. فندق شبرد، جريدة «الأهرام»، مقهى الهيلتون، أستوديو مصر، مقهى الفيشاوي، باتسيري غروبي، الخليلي، والأزبكية و... «ساعة الجامعة» التي تعلن للساهرين أن النهار سوف يطلع بعد قليل، تفضلوا من غير «مطرود».
شبرد كان الملتقى. وبالنسبة إلينا كان كولومبس الذي اكتشفه، هو الزميل فؤاد مطر، الذي أصبح مراسل «النهار» شبه المقيم. ولا شك أن فؤاد قدم مصر لفريق من اللبنانيين لم يكن يعرفها ويهتم بأمورها، بل كان مأخوذا بباريس وأسمائها وأضوائها وينظر إلى القاهرة متشاوفا. بنى فؤاد لمعانه المهني على تغطية أحداث مصر. ومنها اتجه في أفريقيا العربية، نحو السودان، الذي لم يكن يهتم المشارقة بأموره، ولا يرد ذكره في صحفها، مع أن عددا كبيرا هاجر إليه طلبا للعمل أيام البريطانيين. ولعل أوفى دراسة تاريخية للسودان وضعها اللبناني نعوم شقير، الذي يذكرك بالبحث الاجتماعي عند ابن خلدون. ومنه أخذت أفكارا وأسماء كثيرة لـ«أوراق السندباد»، إذ أرسلت المغامر الظريف إلى هناك، من دون استئذانه.
إلى اللقاء..