سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مدن الصيف: لماذا سموه أبو الهول؟

يجب أن أبدأ باعتراف مخجل إلى الدكتور زاهي حواس: لم أذهب مرة واحدة إلى مصر من أجل آثارها. هذا معيب ويجب أن يقوله المرء في صوت خافت، أو ألاّ يقوله على الإطلاق. المرات الوحيدة التي ذهبت فيها إلى آثار مصر، كانت بطلب من غسان تويني، أو خجلاً منه. لكنها كانت رحلات لا تُنسى. كنت أعتقد في الماضي أن من الأفضل أن تشاهد آثار مصر في الخارج. وقفت في الستينات في طابور طويل من أجل مشاهدة معرض الآثار المصرية في «القصر الكبير» في باريس. ودائماً أتأمل المسلة العظيمة التي حملها نابليون إلى ساحة الكونكورد. أو المسلة التي تقوم الآن أمام مبنى منظمة الأغذية والزراعة الدولية في روما، وكانت قد سُرقت في العام العاشر قبل الميلاد، أو المسلة الموجودة الآن في «سنترال بارك» في نيويورك، الذي يكاد يصبح حديقتي الخاصة لكثرة المداومة على ممراته.
قال أبو المؤرخين هيرودوت إن «مصر هبة النيل». وعلى حد ما، فإن تاريخها هبة هيرودوت الذي خصص كتاباً كاملاً في «تواريخه» لها قائلاً إنها أصل الحضارة الإغريقية، بادئاً، على الأرجح، ذلك اللقب الذي يفاخر به باعة خان الخليلي وباعة الكتب القديمة في الجيزة، بأن بلدهم هو «أم الدنيا». كلها؟ أيوه، كلها.
فاجأني سؤال غسان تويني وكأنني دليله السياحي «لماذا سمّاه المصريون أبو الهول»؟ لا أدري. لكنه، على ضخامته، لا يُرعب ولا يُخيف. منذ مئات السنين وهو هناك، لا يؤذي أحداً، ويدرّ دخلاً طوعياً على مصر. وإلى قرون طويلة ترك المصريون تاريخهم إلى نفسه، يرتاح في عظمته، وانصرفوا إلى الخصب الجديد حول النيل. ولم يبدأ الاهتمام حقاً بتلك الكنوز العظيمة قبل أوائل القرن التاسع عشر. ولم يتوقف حتى اليوم. فقد أدرك المصريون أن رع ونفرتيتي ورمسيس ما زالوا، على نحو ما، يسهرون على مصر، وما زالوا يشكِّلون أحد مداخيلها الكبرى، مثل القطن والقناة، رغم العقل السقيم الذي أراد أن يُعيد دفن التاريخ تحت الرمال.
على أن غوستاف فلوبير يقر المصريين على تسمية «أبو الهول». تأمله طويلاً فأخافته نظراته. وتأمله شاعر الأرجنتين خورخي لويس بورخيس فقال: «إن كل شيء يحدث للمرة الأولى». شَعَر وكأن التمثال لم يكن هناك قبل وصوله. وقال في قصيدته «السعادة»: «في الصحراء رأيت التمثال الشاب وكأنه نُحت للتو. إن من يشعل ثقاباً في الظلام كمن اخترع النار للمرة الأولى».
يقول هيرودوت «في موضوعية» موصوفة إن اليونانيين أخذوا حتى آلهتهم من المصريين. أعلن ذلك في غير عصر «التواصل الاجتماعي» وإلا لكان رُشق بالبيض الفاسد. أو كانت انهالت عليه أمطار «تويتر»، حيث يعتقد كل صاحب حساب، أنه يختصر حكمة الكون وخبرات الزمان. وفي أي حال، ليس هيرودوت من علمني حب مصر. أنا لا أهتم كثيراً للحجارة وإن كنت أعرف أنها شاهدة عظيمة على التاريخ والحضارات. وما أكثرها وأروعها في مصر.
إلى اللقاء..