نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

التفوق المطلق.. تضليل مطلق

بلغة الأرقام والحسابات التقليدية، فإن لدى إسرائيل جيشا أقوى من كل الجيوش المحيطة به، فهذا الجيش أعد أميركيا وعلى نحو ما أطلسيا ليضمن سيطرة عسكرية على المنطقة بأسرها، وليس على مجرد الدائرة الضيقة التي يعمل فيها، ولقد نجح هذا الجيش في كثير من الحروب التقليدية، إلا أنه في نهاية المطاف أوصل إسرائيل إلى توقيع معاهدات سلام راسخة مع مصر والأردن، ما أعفى هذا الجيش من احتمالات حروب تقليدية جديدة، ولقد تعزز هذا الإعفاء بتورط الجيش السوري في حرب داخلية مرهقة، أما الجيش العراقي الذي كان رديفا قويا للجبهة الشرقية والشمالية، فقد وصل به الأمر إلى حد الحلم بتخليص الموصل من عصابات «داعش».
إلا أن إسرائيل ظلت تعتنق نظريتها القديمة، دون أن تدرك أن ابتعاد احتمال الحرب النظامية، قرّب بالمقابل حربا من نوع أكثر إرهاقا وتعقيدا وخطرا، فحين خرجت الجيوش التقليدية من المعادلة، انفتحت جبهة شبه تقليدية، هي جبهة المقاومة الفلسطينية في لبنان، ومع أن إسرائيل جنّدت ما يزيد على ثماني فرق عسكرية، لسحق المقاومة الفلسطينية وحلفائها، واستخدمت في ذلك كل سلاحها الجوي المتطور جدا، مع إطلاق كثافة نيران لم يحدث مثلها حتى في أشرس الحروب العالمية، ومع أن هذه الحرب أسفرت عن تشتيت المقاومة الفلسطينية وإخراجها من لبنان، إلا أن عدم احتواء نتائج الحرب، بتسوية سياسية كانت متاحة آنذاك بحكم استعداد ياسر عرفات للدخول فيها، بتشجيع من حليفه المصري، إلا أنها أسفرت كذلك عن استبدال جبهة الفلسطينيين بجبهة اللبنانيين التي قادها حزب الله، ورغم كل الترتيبات والضمانات التي حصلت عليها إسرائيل جرّاء كل حروبها على تلك الجبهة فإن الخوف من مخزون سلاح حزب الله ما زال يملأ قلوب الإسرائيليين بالرعب، رغم أنه لم يُستخدم ضدها على مدى ثماني سنوات. لقد هدأت جبهة لبنان بعد حروب طاحنة مع الفلسطينيين واللبنانيين، إلا أنها تجددت في سلسلة الانتفاضات الفلسطينية التي اندلعت غداة اتفاق أوسلو وحتى يومنا هذا، ولقد تفرغ الجيش الإسرائيلي «القوي جدا» في مجال مواجهة القوات النظامية العربية، لحرب شوارع شكل فيها الحجر والسكين والبندقية والحزام الناسف، تحديا لا قبل للجيش القوي باستئصاله، إلا أن جبهة الانتفاضات الفلسطينية هدأت بفعل ترتيبات أمنية وسياسية لم ترقَ إلى مستوى الحل السياسي، وكانت النتيجة الأخرى لذلك أن الانتفاضات الفلسطينية خرّبت الجيش الإسرائيلي من خلال امتصاص الأزقة الضيقة لتشكيلاته وآلياته ومعداته الحديثة، فكان الهدف الإسرائيلي من وراء إدخال الجيش بهذه الكثافة في المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وهو الإخضاع المطلق، قد تحول إلى عكسه تماما، أي غياب الأمن المطلق عن إسرائيل، ورغم الهدوء النسبي الذي خيم على الضفة في فترة ما بعد الانتفاضة الثانية، والذي خُيل لقادة إسرائيل، أنه إخضاع نهائي، إلى حد تسمية إحدى العمليات الأمنية في منطقة الخليل... بعملية «لعق الصحون» فإن الخوف من انتفاضة ثالثة في الضفة، لا يزال يراود عقول قادة إسرائيل ومواطنيها وعلى مدى سنوات لم تخلُ الصحافة الإسرائيلية من محاولة الإجابة عن سؤال... هل هنالك انتفاضة ثالثة أم لا؟
الهدوء النسبي في الضفة كان يتحول إلى اشتعال نسبي كلما قُتل شاب فلسطيني أو مستوطن إسرائيلي، إلا أنه يوشك دائما على الاشتعال الشامل حين تندلع حرب على غزة، ويرتفع منسوب الدم والدمار إلى أعلى مستوياته، هذا هو الحال وإسرائيل صاحبة الجيش الأقوى تقف الآن حائرة أمام هذا النوع من الحروب، التي لا يمكن تفاديها كما لا يمكن حسمها، وحتى الآن فإن المستوى السياسي في إسرائيل لا يزال يعتنق نظرية الجيش المتفوق لحسم كل الأمور، إلا أنه لم ينتبه بعد إلى أن نظرية الحسم القديمة لم تعد صالحة في هذا الزمن.
كلمة السر في لبنان كانت الاحتلال الإسرائيلي لبعض أراضيه وكلمة السر في فلسطين هي استمرار الاحتلال الإسرائيلي العسكري والاستيطاني للضفة مع استمرار الحصار الخانق لغزة، ذلك أن الاحتلال جزئيا كان أم شاملا، هو الحاضنة النموذجية لتوليد قوى تجعل الأمن والأمان في إسرائيل مستحيلا، بل إنها تخرج معادلة التفوق المطلق من اللعبة كتأثير حاسم يفرض خلاصات سياسية حاسمة لصالح إسرائيل، لهذا يبدو اعتناق نظرية التفوق المطلق للجيش الإسرائيلي كمصدر أمن وأمان أو كمخرج من كل الأزمات التي تواجهها إسرائيل أمرا وإن كان شديد الإيذاء إلا أنه عديم القدرة على تحقيق الأهداف النهائية.
إن القوة المتفوقة كثيرا ما تضلل القيادة السياسية، وتأخذها إلى قرارات مغامرة، وهذا ما حدث ويحدث منذ اليوم الأول لحرب العام 1982 ضد الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية وما زال حتى يومنا هذا، وسيبقى إلى ما لا نهاية إذا لم يُحتو بتسوية سياسية شاملة.