حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

الانحراف باسم محاربة «داعش»

كأني بإيران وقادتها وملاليها وقمها ومفكريها وحوزاتها، يفركون أيديهم هذه الأيام تشفيا من الحوار البائس الذي يدور هذه الأيام حول تحميل «الوهابية» مسؤولية داعش والإرهاب، لم أتصور أن الخصومة الفكرية بين النخب المثقفة عندنا تصل إلى حد تكسير العظم العقدي، يريد بعض مثقفينا أن يفهمنا أن العقائد مثل الأفكار والنظم قابلة للمساومة والتحوير والتغيير والتعديل وأحيانا النسف الكامل، فما يصلح لزمن لا يصلح لزماننا، وظن هذا البعض أن محمد بن عبد الوهاب مجدد لأنه جدد لزمانه بنسف اجتهادات غيره، خلط هؤلاء بين الفقه الذي يتحور ويتغير في تطبيقاته وبين العقائد الثابتة الراسخة، ضاعت الحدود عندهم بين الثابت والمتحول، أتحدى من طرح هذا الفكر التجديدي الناسف لكل شيء أن يقول إننا غير ملزمين بأفهام الأئمة الفقهاء، لكننا ملزمون بحاكمية القرآن والسنة كما احتكمت إليهما الدولة النبوية والخلفاء الراشدون وخلفاء بني أمية والخلفاء العباسيون والخلفاء العثمانيون، وأخيرا الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة.
يريد هذا البعض من المثقفين باسم محاربة داعش والإرهاب أن تبقى العقيدة محصورة في الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا والرسول صلى الله عليه وسلم نبيا فقط، ثم بعد ذلك لا يهمهم تفصيلات العقيدة والتشريعات الربانية، لا أقول التي أطرها وأصلها السلف، ومنهم ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب، بل حتى التي حددتها نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة، يريد بعض هؤلاء المثقفين باسم محاربة داعش والإرهاب وباسم التجديد أن تتجرد الدولة من تحكيم الشريعة فلا حدود تقام ولا تشريعات تطبق، ولا أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر ولا مانع من تسويق الخمرة وفشو القمار وغض الطرف عن الشذوذ، فهي أمور شخصية لا تعني الدين ولا الحاكم.
يريدون باسم محاربة داعش والإرهاب أن نحصر محرمات الشرع في عدد أصابع اليد الواحدة فقط (وهذا نص لأحدهم وليس من عندي)، وهؤلاء يعلمون أن قائمة المحرمات والمحظورات التي أجمع عليها كل المسلمين وبالنصوص الشرعية الصحيحة الصريحة بمذاهبهم العقدية والفقهية من تطوان غربا إلى جزر الملوك الإندونيسية شرقا ليست بهذا الاختزال المخل، فرق بين أن نقول إن دائرة المباحات أوسع من المحظورات وأن نختزلها في أقل من 5 محرمات.
يريدون باسم محاربة داعش والإرهاب أن تلغى من الوجود كل الملل والنحل فلا سنة ولا شيعة ولا سلفية ولا أشعرية ولا صوفية ولا حنبلية ولا شافعية ولا حنفية ولا مالكية، وكل الإرث العظيم من الكتب والمراجع لا قيمة لها فالرب واحد والدين واحد والنبي واحد وكل مسلم يعبد الله كما يرى ويروق له، وينسى هؤلاء المثقفون «الهلاميون» أن الانتماء العقدي والفقهي سنة كونية (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) وأنه ليس من لازم الانتماء العقدي والفقهي نبذ الآخر ومحاربته وإقصاؤه، ومن فعل فهي مشكلته.
يريدون باسم محاربة داعش والإرهاب أن ننسف مرجعية العلماء الذين أشار القرآن إلى أهميتهم (ولو ردوه إلى الله والرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، ويضايقهم أن نقول بأن التخصص الشرعي مثله مثل أي تخصص آخر لا يقبل الحديث فيه إلا من عالم فيه، إنهم يستكثرون على متخصص في الزراعة الحديث في الفيزياء، وأما الخوض في مراد الله ومراد الرسول فلا حواجز ولا حدود والكل في حكم المتخصص، بالتأكيد لا كهنوت في الإسلام هذه حقيقة، والحقيقة الأخرى أن الخوض في الحلال والحرام والعقائد ليست كلأ مشاعا لمن هب ودب ومشى ودرج، حرب داعش وكل تنظيم إرهابي وتعريتهم ضرورة شرعية ومطلب وطني ولكن ليس على حساب انتماءاتنا العقدية.