علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

رهائن غزة

مفاوضات هدنة أو إنهاء الحرب الثالثة منذ سيطرة حماس على القطاع في 2007 تختلف عن أي مفاوضات سابقة من حيث طبيعتها والمصالح أو الأهداف المتضاربة المعقدة لكافة اللاعبين المرئيين أو غير المرئيين فيها، كما أنها تتسم هذه المرة بموقف أميركي مختلف عن المرات السابقة فضل أن يأخذ المقعد الخلفي وينتظر نتيجة الصراع الخفي الدائر ويكتفي ببيانات أو بعض الضغوط حتى لا يخرج الصراع عن دائرة السيطرة بعد فشل الدبلوماسية المكوكية لجون كيري وزير الخارجية في تحقيق اختراق تصور أنه يمكن أن يحققه وسط فوضى عارمة في المنطقة تمتد من العراق إلى سوريا وليبيا وبؤر توتر أخرى مشتعلة لكنها لا تجد طريقها إلى العناوين.
طرفا الصراع المباشران كان لهما مصلحة فيه في هذا التوقيت؛ إسرائيل التي لم يعجبها مشروع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية إضافة إلى تكدس السلاح والصواريخ في القطاع، وحماس المأزومة التي أصبحت تواجه تململا داخليا من سكان غزة تتسرب من حين لآخر تقارير عنه، وهو ما يهدد حكمها بالتآكل تدريجيا، فلا موارد مالية بعد انكماش التهريب عبر الأنفاق التي أغلقت من الجانب المصري، والحلفاء انقلبوا إلى أعداء مثل النظام السوري الذي طرد قيادة حماس وعلى رأسها خالد مشعل، بينما انشغلت إيران بمعاركها الإقليمية الأخرى مع إمكانية المساومة على كافة الملفات التي تمسك بها في مفاوضاتها النووية.
مصر التي كان لها على مدار التاريخ سيطرة أو نفوذ على القطاع الملامس لحدودها، بما في ذلك إدارة القطاع منذ 1948 حتى عام 1967، حينما كانت له وضعية أشبه بمنطقة حرة للبضائع والسلع لها مصلحة في الهدوء حتى تتفرغ لتحدياتها الداخلية مع استغلال المفاوضات الحالية لربط حل الأزمة بالمشكلة الفلسطينية كلها مع إعادة سيطرة السلطة خاصة على المعابر الحدودية، وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
يتداخل مع ذلك الأطراف الأخرى الإقليمية المتصارعة بشكل أو بآخر مع الدور المصري لأسباب لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، لكن بتعويض خسارة حكم الإخوان في القاهرة، أو بتأمين مواقع نفوذ أو وجود يعزز القدرة على التأثير إقليميا، بما في ذلك القدرة على إشعال الموقف حينما تتطلب المصالح ذلك، وقد يفسر ذلك مواقف القيادة الخارجية لحماس المقيمة في عواصم خارجية والتي تشد الحبل كلما بدت هناك ملامح اتفاق، وذلك استمرار لمأزق فلسطيني نتيجة وضع الهجرة جعل قيادات الفصائل التي كانت في الخارج منذ الستينات قبل أن يعود بعضها بعد اتفاق أوسلو مضطرة لمراعاة مصالح أو ضغوط أماكن إقامتها، وهي ليست دائما في مصلحة القضية الفلسطينية.
أما مشكلة حماس وهي حركة تحاول أن ترث منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي السلطة فارتباطها بحركة الإخوان المسلمين، وعدم قدرتها على النأي بنفسها عن مواقف التنظيم الأم، يضعها في قلب صراع إقليمي لا مصلحة للفلسطينيين فيه، وقبولها بحكومة الوحدة الوطنية جاء بسبب تأزم وضعها الداخلي، وبعد أن أغلقت مصر الأنفاق نتيجة التهديد الأمني، وحاجة الحركة إلى أن تكون في إطار يتمتع بالشرعية بحيث يسمح لها بتلقي أموال ودفع رواتب، ولم يحظَ هذا الاتفاق بالوقت المناسب ليثبت ما إذا كان سيصمد أم لا؛ فعمليا السلطة لم تدخل غزة وبعض عناصر فتح لا يزالون تحت الإقامة الجبرية حتى خلال الحرب حسب تقرير لأسوشييتد برس أمس.
وسط كل هذا التعقيد هناك أصحاب المشكلة الحقيقية التي تضغط على جميع الأطراف بما في ذلك حماس، وهم سكان غزة الـ1.8 مليون نسمة المحصورون في مساحة جغرافية ضيقة والذين وضعهم أشبه بوضع رهائن في سجن كبير، لا يمكنهم أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي ولا أن يحلموا بمستقبل يتاجرون فيه مع بقية العالم أو يؤسسون أعمالا يعرفون أنها لن تدمر كل فترة زمنية بسبب قصف عشوائي ردا على صاروخ أطلقه فصيل لأهداف لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية.
وهي مشكلة وصلت إلى حد يحتاج إلى حل حقيقي أصبح لا يستطيع انتظار مماطلات مفاوضات السلام لقيام الدولة الفلسطينية، والمطالب التي يطرحها الوفد الفلسطيني حول الميناء والمطار، وحركة التجارة والسفر عبر المعابر الحدودية، مطالب ملحة لحل أزمة السكان، حتى لو كان ذلك لما قد يكون كيانا أو مدينة بميناء شبه مستقلة على غرار تجارب أخرى في العالم وجدت طريقا اقتصاديا تستطيع أن تعيش به مثل إمارة موناكو أو تجربة هونغ كونغ.
المرجح أن مؤتمر إعادة إعمار غزة هو بمثابة الجزرة التي يجري التلويح بها لإنهاء الوضع الحالي والقبول بهدنة طويلة، وسيكون المدخل لإيجاد حل قابل للاستمرار لأزمة القطاع، فالاستثمارات والأموال لن تأتي في ظل سيطرة فصائل وميليشيات، وعلى الأغلب سيكون هناك إشراف دولي على طريقة إدارة القطاع مع عودة السلطة الفلسطينية بشكل أو بآخر. هل تقبل أطراف الصراع المباشرة وغير المباشرة بهذا الطريق، وتفك أسر الرهائن الـ1.8 مليون؟ لا شيء يوحي بذلك حتى الآن.