سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مدن الصيف: خرز أزرق مقابل ماس أزرق

كلما جئت مسقط أذهب إلى «السوق». أحمل هذا المشهد معي من طفولتي في بيروت و«سوق النورية» و«سوق أبو النصر» و«سوق الصيّاغين». تجمُّع بشري ملون، متزاحم، وباعة وأصوات ومساومات شرقية: «بشرفي يا أستاذ هيدا رأسمالو. ما في قرش زيادة»! تتكرر الجملة نفسها باللهجة المغربية في فاس، سوق الصفارين. الروائح القوية نفسها في سوق حلب، الكمّون والبهار والمسك والزيوت والعطور. الشرق تحت القناطر. الشرق في خان الخليلي وسوق الحميدية وتحت قناطر إسطنبول. التاجر الحلبي متربع مثل جدّه، يكرر بطريقة سحرية فيها رنّة العتق: «قرش زيادة ما في خيو. يا فتّاح يا عليم. افتتاحية مباركة. بعدين بتدفع».
للشرق صوت وعبق. البخور في سوق عمان. حرير من الهند. فضّة محلية وخناجر. شكرا، أفضل قلم حبر. أو حتى «قلم رصاص» مثل حمدي قنديل. ماء الورد. خشب الورد. عطر الورد. المر. العنبر. العاج. المرايا ذات الأُطر المزخرفة، شغل إيران. سجّاد من بلاد فارس. عباءات مقصّبة الأطراف. الشرق يتبضع. والتاجر يبقى متكئا على كوعه لا يتحرك. ومعظم السيّارين هنا يقطعون الوقت وسط روائح الياسمين والصندل. وبسطاء لا يملكون ما يشترون. والبائع تعلَّم منذ ألف سنة من هو المار الشاري ومن هو مبدِّد الوقت تحت القناطر: «وحياتك أستاذ ما في قرش زيادة. بلاش الفلوس، خذها، ما بدنا مصاري».
يبيعك الشرق العطور والأوهام والكلام، ودائما تدفع أنت الثمن. هو، له مهمّة واحدة، أن يبيع. وأنت لك قيمة واحدة، أن تشتري، لكن كل ذلك في إطار سحري. بقايا من سوق الكرخ وبضائعه وعروضه: «ما معك، ما تدفع اليوم. بعدين بتدفع». فقط اللهجة تتغير في خان الخليلي وتذكِّرك بأنك سمعت هذا الكلام في فيلم ما من قبل: «سيادتك لبناني مش كده؟ خلاص بقا، بلاش فلوس، خذها بَرَكِة وبس».
يتظاهر تاجر سوق الصفارين بأن هويتك أشكلت عليه، لأنه إذا حزرها فورا فقدت أهميتها الكبرى: «شرفني بمعرفتك». يقولها كأنه مسؤول الاستقبال في مهرجان أصيلة. «حضرتكم قادمون من أين؟» الشرق يتنقل حاملا بضائعه على كتفيه. ذهب جدي تامر شاكر الغوار إلى المكسيك يبيع على فرسه البضائع الصغيرة. كيف وصل إلى هناك؟ كيف عرف الطرق في الأرياف القاسية؟ كيف نجا من قطّاع الطرق؟ وكيف سافر من هناك إلى ميتشيغان أوائل القرن الماضي؟ ليتني سألته. ذهب اللبنانيون بالآلاف إلى مجاهل الأميركيتين، لا رأسمالا يملكون، ولا لغة يتحدثون. والد كارلوس سليم، أغنى رجل في العالم، بدأ بائعا على كشّة، مثل جدّي. صنع ثروة في أفقر بلدان العالم. كارلوس سليم اكتشف الاتصالات مثلما اكتشف والده حب المكسيكيين للحرير. مثلما اكتشف اللبنانيون حب الأفارقة للخرز الملون. باعوهم خرزا وأخذوا منهم حبوب الماس.
إلى اللقاء..