صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

تعاطي أميركا مع «داعش» يعزز ما نسب إلى كلينتون!

بغض النظر عمَّا نُسب إلى وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أنها قالت، في كتابها الأخير «خيارات صعبة»، إن الإدارة الأميركية هي من قام بتأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» فإن المؤكد أن سكوت الأميركيين على هذا التنظيم الإرهابي وعدم مواجهته وهو لا يزال في بداياته الأولى يدل على أنهم ليسوا متقاعسين فحسب، وإنما قد يكونون متورطين في حسابات وتقديرات خاطئة جعلت الأمور تصل إلى ما وصلت إليه، وجعلت «داعش» تتحول مع الوقت إلى هذا البعبع المرعب.
لقد ترك الأميركيون، ومعهم حلفاؤهم الأوروبيون، «داعش» تكبر وتُوسِّعُ مناطق سيطرتها إنْ في سوريا وإنْ في العراق، وهذا يثير ألف سؤال وسؤال، ويعطي مصداقية لما قالته هيلاري كلينتون في كتابها الآنف الذكر. ثم إن الغارات الجوية التي نفذتها الطائرات الأميركية لمنع تغلغل مقاتلي «الدولة الإسلامية» في كردستان العراقية قد جاءت خجولة ومحدودة، وربما من قبيل مجرد رفع العتب، وحيث قال ناطق عسكري أميركي إن هذه الغارات ستبقى محدودة، وإنه لن يتم الانتقال بها لا إلى الموصل ولا إلى مناطق العراق الأخرى التي إما سيطرت عليها أو تهددها القوات «الداعشية» الزاحفة.
لقد أثار موقف الولايات المتحدة من هذا التنظيم الإرهابي، الذي حقق انتشارا في سوريا وفي العراق وكأنه لا يواجه مقاومة على الإطلاق، شكوكا وتساؤلات كثيرة ليس على مستوى الأفراد ولا على مستوى تنظيمات المعارضة السورية فقط، وإنما أيضا على مستوى العديد من دول المنطقة التي أرعبتها هذه الظاهرة الغريبة العجيبة؛ فهؤلاء جميعا لا يصدقون أنَّ أميركا مثلها مثل غيرها لا تعرف من هي «داعش» ولا تعرف من يقف خلفها ومن يمولها ويزودها بالأسلحة الثقيلة والخفيفة، وأيضا من هي الجهة أو الجهات التي توفر لها كل هذه التغطية الإعلامية.
لقد سكت الأميركيون وهم لم يُحرِّكوا ساكنا عندما سيطرت هذه الـ«داعش» بتسهيل ومساندة نظام بشار الأسد على معظم الجزء الشرقي من سوريا، ثم لقد سكت الأميركيون وهم لم يحركوا ساكنا عندما اجتاح مقاتلو هذا التنظيم الإرهابي مدينة الموصل وعندما تمددوا لاحقا وبسرعة البرق نحو الجنوب والغرب والشمال، وأيضا عندما سلَّمت أربع فرق «مجولقة» من جيش نوري المالكي أسلحتها لهذا التنظيم لهؤلاء الإرهابيين.. فماذا يعني هذا؟ ولماذا لم تَدْخل الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها الأوروبيون في مواجهة جدية مع تنظيم مجرم سيهدد حتما دول الشرق الأوسط كلها وسيصل إلى الغرب الأوروبي والغرب الأميركي وقد يرتكب ما هو أبشع من جريمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001..؟!
إنه لا شك في أن لنظام بشار الأسد، بمساندة إيران، يدا طولى في «تعمْلق» هذا التنظيم وانتشاره وتوسعه بهذه السرعة، فهذا النظام أراد أن يؤكد ادعاءاته بأنه لا يواجه ثورة داخلية وإنما تنظيمات إرهابية مسلحة غريبة وخارجية، والغريب أن تسْليم هذا النظام آبار النفط السورية في مناطق دير الزور، تحديدا لـ«داعش»، قد قوبل بالصمت المريب من قبل واشنطن ومن قبل العديد من الدول الأوروبية.. إنها أُحجية عجيبة غريبة.. وإن كل هذا يجب أن يثير ألوف الأسئلة والتساؤلات لمعرفة الحقيقة وللوقوف على ما الذي يريده الأميركيون.. وهل صحيح أنهم وفقا لما نسب إلى وزيرة خارجيتهم السابقة هم من أسس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وأنهم فعلا يسعون لتقسيم هذه المنطقة بالاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي غيرها..؟!
وهنا وفي حقيقة الأمر لا يمكن تصديق ما نسب إلى هيلاري كلينتون من أن الإدارة الأميركية هي التي أسست «داعش» وأنها بالتعاون مع «الإخوان المسلمين» تسعى لتقسيم هذه المنطقة بدءا بأرض الكنانة التي هي «قلب العالم العربي والإسلامي»، وانتهاء بما تسميه وزيرة خارجية أميركا السابقة دول الخليج الفارسي.. لكن مع أن من الصعب الوثوق بهذه الرواية فإنه لا بد من أن تساورنا الشكوك ونحن نرى أن واشنطن تتعامل مع الدولة الإسلامية في العراق والشام ومع جرائمها واحتلالها المتواصل للمزيد من الأراضي السورية والعراقية بكل هذه الميوعة وبكل هذا التخاذل.. ألا يثير كل هذا الشبهات ويدفع إلى المزيد من التساؤل عما يجري على هذا الصعيد...؟!
في كل الأحوال وردا على كل التساؤلات المتعلقة بحقيقة «داعش» ومن أين جاءت وبغض النظر عن «نظرية المؤامرة» وعمَّا نُسب إلى هيلاري كلينتون، فإنه يمكن القول إن هذا التنظيم قد بدأ تابعا لتنظيم القاعدة في أفغانستان وتحت اسم «الدولة الإسلامية في العراق»، وإن الذي بدأه هو أبو مصعب الزرقاوي وإن العديد من ضباط الجيش العراقي السابق قد انضموا إليه لدوافع كثيرة، من بينها أنهم اعتبروا النظام الجديد، نظام ما بعد الغزو الأميركي، نظاما طائفيا معاديا للسنة العربأ وأنهم تعرضوا بعد انهيار النظام السابق إلى مطاردات أمنية وإلى عمليات انتقام طالت حتى أطفالهم وزوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم وأخواتهم، وهكذا، وبالتالي وإزاء قلة الخيارات أمامهم فإنهم اختاروا هذا التنظيم الإرهابي أولا من أجل الانتقام، وثانيا من أجل توفير لقمة الخبز لهم ولعائلاتهم.
وربما أن ما يؤكد هذه الحقيقة أن زعيم حزب البعث (العراقي) الجديد عزة الدوري الذي حلَّ محل صدام حسين بعد إعدامه، قد رفض في أحد بياناته الأخيرة التنديد بـ«داعش» وبأعمالها الإجرامية، مما يعزز الرأي القائل بوجود تنسيق ميداني وربما سياسي أيضا بين هذا التنظيم وبين بعض ضباط الجيش العراقي السابق، وكل هذا على أساس القاعدة القائلة: «عدوُّ عدوي صديقي».. وهنا وإذا صحَّ هذا الرأي فإنه يؤكد ما يقوله البعض من أنَّ كل هذه الانتصارات «الداعشية» السريعة، وبخاصة في العراق، هي في حقيقة الأمر انتصارات للسنة العرب ولبقايا مؤيدي النظام البعثي السابق.
وكذلك وعلاوة على هذا كله فإنه من الثابت أن هذا التنظيم الذي أقام شهرته على المشاهدات المرعبة والمخيفة واستخدام الإعلام استخداما تعجز عنه حتى بعض الدول الكبرى، قد استقطب، بالإضافة إلى بعض نزلاء سجون نظام بشار الأسد من القتلة والإرهابيين، عددا كبيرا من المراهقين والمغرر بهم من الدول العربية والغربية وبعض السُّذَّج من الذين لا يعرفون الإسلام ورفْضه لكل هذه الجرائم البشعة، وكل هذا بالإضافة إلى المرتزقة الذين استدرجتهم الأموال التي تقدمها «الدولة الإسلامية» بسخاء.
ويبقى أنه لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة الدموية لا تقتصر على هذه المنطقة ولا على العرب والمسلمين فقط، فهناك الألوية الحمراء في إيطاليا وهناك بادر ماينهوف في ألمانيا (الغربية) وهناك الجيش الجمهوري الآيرلندي (R.I.A) وهناك الخمير الحمر في كمبوديا، وهناك العديد من التنظيمات الإرهابية السابقة واللاحقة في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا.. وهناك أيضا أن التاريخ الإسلامي البعيد قد عرف حركة «القرامطة» التي ارتكبت جرائم أسوأ من جرائم «داعش».. حيث كانت هاجمت مكة المكرمة في موسم الحج وقتلت أكثر من ثلاثين ألفا من المسلمين واستباحت حرمة البيت الحرام وخلعت باب الكعبة المشرفة وسرقت كسوتها ونقلت الحجر الأسود إلى الأحساء ليبقى هناك اثنين وعشرين عاما، وإلى أن استرجعه المسلمون بالقوة.