عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الإيزيديون والمسيحيون بين أميركا و«داعش»

بعد تردد طال أمده، استجمع الرئيس الأميركي باراك أوباما قواه وقرر أن يقوم بـ«عملية محدودة» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف بـ«داعش». ولكن، هل حقا يمكن مواجهة تنظيم بهذه الخطورة بمثل هذه القرارات الخجولة والمحددة والمحدودة؟!
«داعش» لن تكون نهاية المطاف، بل هي بداية نتائج ربيع السوء العربي الذي أخذ يستجر من التاريخ أسوأه ومن التراث أبشعه، ويعجن ذلك مع حالة إنكار مستمرة لا تريد أن تستوعب أفول نجم الحضارة الإسلامية وصعود نجم حضارات الشرق والغرب، ومع العلم أن أصل هذه المشكلة المركبة هو الانحياز للتطرف والابتعاد عن التحضر، إلا أن «داعش» ترى أن هذه المشكلة هي الحل، أي الزيادة في التطرف واعتماد التوحش.
كانت بداية ما كان يعرف بالربيع العربي هي شرارة الانطلاق للحركات الأصولية من كل شكل ولون، وهي لم تزل تعيث فسادا وتخريبا، وانتقلت المنطقة منها إلى ما هو أشد سوءا وشرا وهو تنظيم داعش الطائفي الهوياتي الذي نقل المنطقة إلى درك أخطر يستهدف الناس على هوياتهم الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية ويتسلط على الأقليات المسالمة.
الأقليات ليست شكلا واحدا؛ فثمة أقليات مسالمة بطبيعتها، وثمة أقليات متوحشة ومجرمة، أبرز الأمثلة على الأقليات المسالمة الأقلية الإيزيدية، أو اليزيدية، في العراق ومثلها مسيحيو العراق، ولئن كان مسيحيو العراق يجدون ردءا لهم في الغرب فإن الإيزيديون لا يجدون ناصرا، وأبرز الأمثلة على الأقليات المتوحشة نظام بشار الأسد الطائفي الأقلّوي الدموي، المتحالف مع التنظيمات الشيعية الإرهابية في لبنان والعراق واليمن تحت المظلة الإيرانية.
لقد اختار تنظيم داعش أن يتوحش على الأقليات المسالمة ويتحالف مع الأقليات المتوحشة، فهو يقتل الإيزيديين والمسيحيين المسالمين ويتحالف مع نظام بشار الأسد الأقلوي الطائفي المتوحش، وفي كل الأديان والعادات والتقاليد عبر طول التاريخ وعرض الجغرافيا فإن استئساد القوي على الضعيف محرم ومنقصة وعيب.
لا يوجد شك في أن استهداف الأقليات المسالمة جريمة فظيعة، مثله مثل استهداف الضعفاء من البشر كالأطفال والعجائز والشيوخ، وهو تماما ما تصنعه «داعش»، ولكنّ هذا لا ينفي أبدا أن استهداف الأكثرية المسالمة شنيع بحد ذاته، وذلك عبر استهداف المدنيين من الرجال والشباب المسالمين. إن القتل لمجرد القتل جريمة لا تحتاج لإضافات لإيضاح بشاعتها، وأكثر من هذا أن القتل حتى بين الجيوش العسكرية المتحاربة وضع له البشر خلال تطورهم شروطا وقيودا منذ الديانات الأولى وصولا إلى القوانين الدولية المعاصرة.
جادل أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» بأن الإنسان بطبيعته متعدد الهوية فلا يوجد له هوية واحدة هي المسيطرة عليه وهي التي تحدده وتميزه والمجموعات البشرية كذلك، وما يسمح بصعود هذا الجانب أو ذاك من هويته هو الخطر الذي يراه محدقا به، فعند تهديد الدين يصعد الجزء الديني من الهوية، وعند تهديد العرق يرتقي الجزء العرقي من الهوية وهكذا، وهي مجادلة صحيحة وقد تحدث أيضا عن الجوانب الضرورية والاختيارية في الهوية.
الأقليات المسالمة هي أقليات تنتمي إلى أقلية دينية اضطرارية أو فطرية بالنسبة لهم، بمعنى أنهم نشأوا عليها ولا يعرفون غيرها ولا يرغبون في تغييرها، وهم يتعرضون للقتل والتهجير بسبب أمر ليس لهم خيار فيه، بينما هوية تنظيم كتنظيم داعش هوية اختيارية، فهي اختارت من التراث ما يناسب توحشها واختارت في الواقع أن تبيد كل من يخالفها، والتهجير نظير القتل وإن كان أقل دموية.
يبدو أن أوباما قد تجرع السم لاتخاذه قرار استهداف تنظيم داعش، فصياغة التصريح واضحة في التردد، فهو قد «أجاز»، ولم يأمر، شن غارات جوية ضد عناصر «داعش»، وهو قال: «بإمكاننا أن نتحرك، بحذر ومسؤولية، لمنع حصول عملية إبادة محتملة». فهو يتحدث عن إمكانية التحرك، وأضاف: «سنوجه ضربات جوية لـ(داعش) في العراق إذا استدعى الأمر»، كأنه كان يرى أن الأمر لم يكن يستدعي التحرك.
ولكن، لماذا تحرك أوباما الآن؟ لماذا أخذ قرار التدخل؟ وأين الليبرالية اليسارية التي ينتمي إليها؟ وأين قناعاته بالانسحاب من العالم؟ وهل جاء هذا التدخل بالتنسيق مع بعض القوى الإقليمية كإيران أم لا؟ كل هذه أسئلة مستحقة وإجاباتها ليست سهلة، ولكن ذلك لا يمنع من محاولة تلمسها.
بداية، فقد تحدث أوباما عن تخوفه من حصول «إبادة محتملة» للأقليات وعلى رأسها الإيزيديون والمسيحيون، وهو ما أكده وزير خارجيته جون كيري بقوله إن «حملة إرهاب تنظيم داعش في العراق والشام على الأبرياء، ومن بينهم الأقلية المسيحية، وأعمال العنف الفظيعة تحمل كل نذر الإبادة الجماعية»، وهذا تخوف واقعي، ولكن أعمال «داعش» مستمرة منذ شهور كثيرة في سوريا والعراق ولم تحرك إدارة أوباما ساكنا تجاهها، فلماذا الآن؟
يبدو أن الحملات الشديدة والضغوط المستمرة على إدارة أوباما تجاه سياسة الانكفاء والانعزال والانسحاب من العالم في الكونغرس، كما في بعض وسائل الإعلام والجمعيات الأهلية، أجبرته مرغما على إجازة تلك الهجمات الجوية.
إضافة لذلك، فقد قال الأميرال جون كيربي، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، على موقع «تويتر»: «أغارت طائرات أميركية على مدفعية (داعش). استخدمت المدفعية ضد القوات الكردية التي تدافع عن أربيل، على مقربة من عناصر أميركيين»، بحسب هذه الصحيفة (الجمعة الماضي). وأضاف أن «قرار القصف اتخذه مركز القيادة الأميركية بموافقة القائد الأعلى» باراك أوباما. إذن، فمن اتخذ القرار هو مركز القيادة الأميركية واكتفى أوباما بالموافقة، وأن من أسباب القرار وجود «عناصر أميركية» في المناطق التي استهدفتها «داعش». وقد لخص وزير الدفاع الأميركي، تشاك هيغل، ذلك بقوله: «إن الغارات ستتواصل إذا هدد (داعش) مصالح واشنطن أو مس النازحين بأذى».
ولكن، يبقى السؤال مفتوحا: هل ثمة تنسيق مع الجانب الإيراني تجاه هذه الضربات أم لا؟ إن كان ثمة تنسيق فهو إقرار أميركي واضح بشرعية التدخل الإيراني في العراق وهو أمر شديد الخطورة على أمن المنطقة ككل وليس على العراق وحده، وإن لم يكن ثمة تنسيق فكيف سيكون رد الفعل الإيراني؟ وما التأثير المحتمل على مسار المفاوضات حول مشروع إيران النووي؟
أخيرا، فإن المنطقة أمام اضطرابات كبرى تتزايد وتتصاعد على المستويات كافة، فلا يمكن التعامل مع ملف «داعش» بعيدا عن الدور الإيراني، ولا عن الجماعات الأصولية مثل الإخوان المسلمين بمنأى عن التغيرات في موازين القوى الدولية، ولا يمكن الاقتصار في مواجهة الإرهاب على الإرهاب السني دون الإرهاب الشيعي، فحتى تكتمل الصورة يجب دمج جميع هذه المعطيات وغيرها وصولا لرؤية أوضح وتصور أكثر جلاء.