إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

مشروع واحد من غزة وعرسال.. إلى شمال العراق

في السياسة يصعب التوفيق بين العاطفة والمثاليات من جانب، والواقعية والمصالح من جانب آخر. لكن هذا ما هو ماثل أمامنا اليوم في غزة، وشمال العراق، وعرسال بشمال شرقي لبنان. للأسف، يصعب علينا، كعرب ومسلمين، كما يبدو، تقبّل الحقائق. ذلك أن غالبيتنا تفضل العيش في الأوهام وما زالت تتفاعل مع مجريات الأمور في بلادنا، إما بانفعال بريء ساذج... أو على أساس أمنيات لا تستند إلى واقع محسوس. كل المشاكل التي تواجهنا راهنا نتعامل معها هذه الأيام بالتركيز على الأعراض فقط متناسين: أولا المُسببات، وثانيا النيّات، وثالثا المناورات المتعمّدة إما للتضليل أو الإرباك.
إن ظاهرة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و «جبهة النصرة» والتنظيمات «القاعدية» بشتى أشكالها وتسمياتها من الظواهر المألوفة في تاريخ الإسلام الطويل. ولقد خبِر الإسلام منذ بزوغه حركات وتنظيمات متطرّفة كانت تقوم وتزدهر ثم تندثر. وكلها، من دون استثناء تقريبا، كان يسعى لاحتكار الإسلام والهيمنة «الشرعية» على مقدّرات المسلمين. والملاحظ، لمن يهمه الأمر، أن التطرّف والغلو كانا يتزامنان مع مراحل ضعف الدولة وانحطاطها... وإما يساهمان في التعجيل بهذا الضعف، ومن ثم الانحطاط، أو يأتيان ردة فعل غاضبة عليهما. في حين كانت فترات ازدهار الدولة ومنعتها واتساع رقعة نفوذها تتميّز بالتسامح الديني والمذهبي والاعتراف بالتعدّدية واستيعاب الاختلاف، بل والاستفادة منه.
نعم، ظاهرة «داعش» وأخواتها ليست جديدة أو طارئة، وأيضا التحديات التي تواجه العالمين العربي والإسلامية لم تبدأ صباح أمس. غير أننا، كعرب وكمسلمين، نتصرّف اليوم إزاء مشاكلنا بانفعال عاطفي يرفض التفكير والتحليل ويأنف الاتعاظ من الأخطاء... ويستمرئ الشعارات الخطابية ويستسلم للمزايدات، بدلا من ربط الأشياء أحدها بالآخر، وتحليل المعطيات واستشراف النتائج بناء على حد معقول من المعرفة والصراحة مع النفس. ولنبدأ بغزة. أنا واثق أنه ليس هناك إنسان سوي يمكن أن يتحمّل مشاهد الفظائع التي مثّلتها الآلة الحربية الإسرائيلية فصولا، ولا سيما جثث الأطفال المقطّعة، ونواح الأمهات الثكالى، وآثار التدمير البربري للأحياء السكنية. وبالأمس فقط استقالت وزيرة بريطانية مسلمة من حكومة ديفيد كاميرون استنكارا لموقفها الملتبس من مأساة غزة. ولكن علينا أيضا أن نفهم أنه وسط القصف والدمار والأشلاء هناك «غاية سياسية» إسرائيلية من حرب غزة، كما أن هناك «هدفا سياسيا» مقابلا لحماس والجهاد الإسلامي ومَن يمدّهما بالمال والسلاح.
ما حدث ويحدث في غزة جزء من «سيناريو» سياسي يتّصل بمصير الأراضي الفلسطينية المحتلة ويشكل جزءا من تلاقي، أو تلازم، أو تقاطع المخططات الإقليمية والدولية الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط. وهذه الأيام، بينما يستذكر العالم مرور 100 سنة على اندلاع الحرب العالمية التي انتهت في المشرق العربي بإعادة رسم خارطة المنطقة، بات علينا التنبه إلى احتمال أن تكون التسوية التي أبصرت النور عام 1920 قد انتهى مفعولها بشقّيها الأساسيين «اتفاقية سايكس - بيكو» و«وعد بلفور». ثمة أكثر من طرف إقليمي ودولي واحد أسهم عن عمد في شقّ الصف الفلسطيني بعدما كان العرب قد قرّروا جعل منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي الوحيد» للفلسطينيين. وواضح من «حرب غزة» أن لإسرائيل هدفا سياسيا - استراتيجيا يقوم على تصفية إمكانية قيام أي كيان فلسطيني مستقل. المخطّطون الإسرائيليون يدركون أساسا استحالة «إبادة» غزة عسكريا، لكنهم قصدوا من حربهم بناء قوة دفع لصيغة سياسية جوهرها فرض «وصاية» إقليمية على المناطق الفلسطينية الممزّقة الأوصال. وواشنطن طبعا ملتزمة تماما بالموقف الإسرائيلي، وإيران تشجّع وتسلّح وتصعّد لتحسين حصتها من الصفقة الإقليمية الكبرى من دون الاكتراث بدماء الفلسطينيين وآلامهم.
حالة غزة تنطبق تماما على حالة عرسال وأبعادها اللبنانية - السورية. أزمة عرسال أيضا لم تبدأ البارحة رغم تظاهر الساسة اللبنانيين بأنهم فوجئوا بما حصل. لقد شبّت الثورة السورية قبل أكثر من ثلاث سنوات، وسرعان ما حوّلها مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي وبشار الأسد، بتواطؤ إقليمي ودولي، إلى حرب أهلية حقيقية. وخاض «حزب الله» بأوامر إيرانية الحرب على هذه الثورة قبل نحو سنتين. وبالتالي، كان من الطبيعي أن يستدعي تدخله في سوريا تدخلا مضادا داخل لبنان يحظى بدعم - ولو عاطفيا - من طائفة سنية مُهمّشة ومُستضعفة بقوة السلاح، بينما الجيش اللبناني ممنوع من ممارسة دوره الوطني المتوازن المطلوب.
في المقابل، فإن إسرائيل، المرتاحة تماما لوضع حدودها السورية منذ 1974، كانت وما زالت ضد تغيير نظام الأسد. وكان لا بد، بالتفاهم مع واشنطن وموسكو، من مبرّر للإبقاء على النظام «صندوق بريد» بين تل أبيب وطهران، وجهاز امتصاص صدمات يخدّر الأقليات الدينية والمذهبية ويضمن استمرار ولائها. وجاء هذا المبرّر «القابل للتصدير» بجعل سوريا، ثم العراق ولبنان أيضا، أهدافا لجماعات جهادية تكفيرية متطرّفة ترتكب مجازر وتمارس التهجير والتطهير الطائفي والعرقي.
وكما أن دور «حزب الله» لا علاقة له بمواجهة إسرائيل، لا علاقة لمشروع «داعش» وأخواتها حقا بنصرة الثورة السورية، أو التصدّي لهيمنة إيران على العراق ولبنان، بدليل ممارساته المرفوضة إنسانيا بحق أبرياء ينتمون لأديان وطوائف متنوّعة في فسيفساء المنطقة. وأيضا بدليل تمتّعه بموارد مالية ولوجيستية لا تتفق و«عفوية» جهاده المزعوم، ناهيك من الصمت المُريب من القوى الكبرى على تمدّده السريع عبر المنطقة.
إن تهجير أقليات شمال العراق (من المسيحيين والأيزيديين والشبك وغيرهم)، بعد إرباك ساحة الثورة السورية وإنهاكها بمعارك جانبية وترويع السوريين بممارسة القتل والهدم والتضييق الديني، وجرّ لبنان - حيث لا توجد دولة، ولا تشكل طائفية دينية واحدة غالبية سكانية - إلى حرب أهلية... ليس سوى مقدمة لتقسيم المنطقة وتفتيتها. وباعتقادي، وهذا ما سبق لي ذكره في مناسبات سابقة، أن عملية التقسيم والتفتيت الجارية على قدم وساق تمهد لوصاية إقليمية جديدة... وبعلم عدد من اللاعبين الإقليميين ودعمهم.