شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

المالكي والكرسي

يخوض رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي معارك حامية الوطيس مع الحلفاء قبل الخصوم، من أجل الحفاظ على منصبه والتمديد لولاية ثالثة، ووصل أخيرا إلى حالة من «شبه تخبط» وفقدان التوازن وهو يرى الولاية الثالثة أمرا غير محسوم على الرغم من فوزه في الانتخابات النيابية الأخيرة.
المالكي أعد العدة طوال السنوات الماضية للمضي بولاية ثالثة وربما رابعة وخامسة، إذ كرس جهوده منذ وصوله إلى كرسي الحكم عام 2006 لضرب الخصوم والشركاء من سنة وأكراد، وحتى الشيعة.
المالكي بدا منتصرا إلى قبل يوم واحد من سقوط الموصل بيد «داعش» في العاشر من يونيو (حزيران) الماضي، بعد أن خلت الساحة أمامه، وبعد فوزه في الانتخابات النيابية التي جرت في أبريل (نيسان) الماضي، متقدما بفارق كبير على جميع منافسيه. غير أن الخطر الذي داهمه لم يكن في الحسبان، إذ قلب هجوم «داعش» على الموصل وعلى عدد من المدن العراقية في غضون أيام، كل الحسابات.
وبدلا من الإقرار بالمسؤولية عن أحداث الموصل كونه القائد العام للقوات المسلحة وكونه لم يكترث «لأسباب مجهولة» بتحذيرات أميركية وأخرى كردية من هجوم مرتقب من التنظيم قبل أيام من وقوعه، راح المالكي يلصق التهم بالآخرين جزافا، وأولهم السنة، ويحمل الجميع المسؤولية، إلا نفسه، ويتهمهم بالتآمر ومحاولة الانقلاب عليه. ثم وجه أصابع الاتهام للأكراد بدعم «داعش» وإيواء عناصره والتخطيط لاحتلال الموصل.
وزاد التخبط عندما تصاعدت المطالب بتنحيه من أجل إصلاح ما أفسده حكمه، لكنه أبى وأصر على البقاء، ضاربا عرض الحائط بجميع الدعوات، حتى تلك التي أطلقتها المرجعية الشيعية العليا.
تمسك المالكي بالكرسي أمر يثير الدهشة حقا ويصعب تفسيره، فلو كانت تلك السنوات الثماني التي قضاها في السلطة أفرزت نجاحا على صعيد ما لكان الأمر مفهوما. لكن أن يصر على البقاء على الرغم من كل الفشل الذريع والنهاية الكارثية التي اختتم بها ولايته الثانية، فهذا لا أجد له تفسيرا. فما لذة قيادة مركب على وشك الغرق؟ وما المتعة في إدارة بلد على حافة الهاوية، تهدده الحرب الطائفية من ناحية، والتقسيم من ناحية أخرى؟ وما قيمة سلطة لا تتجاوز حدودها المنطقة الخضراء؟
فلماذا كانوا يلومون صدام حسين عندما رفض التنحي واختار أن يجر البلاد إلى حرب ما زالت مستمرة؟ ولماذا كانوا يصفونه بالديكتاتور وهم يحاكون اليوم نفس سياسته في إقصاء الآخرين وإدارة البلاد بقبضة من حديد؟
صدام بقي في السلطة 34 سنة، ووجد من الصعوبة بمكان أن يتخلى عنها في آخر المطاف بعد أن صار الحكم جزءا منه. أما من مارس السلطة ربع هذه المدة فقط ويريد البقاء «للأبد» فهذا لا أجد له أي مسوغ.
لا أسعى هنا لإيجاد تبريرات لشخصيات مثل صدام والقذافي وأمثالهما، لكن هؤلاء هم أبناء عصرهم جاءوا بانقلابات عسكرية خططوا لها سنوات، وقادوا دولهم عقودا بين كسب قلوب شعوبهم بالأحلام والوعود الكاذبة، وبين الترهيب والقتل والدماء. هؤلاء تمتعوا بكاريزما الزعامة وجنون العظمة وشغلوا الدنيا طويلا بأخبارهم. ومن وجهة نظرهم، هم خلقوا للسلطة، وأن الكرسي جزء من حياتهم، وأن العراق لن يكون من دون صدام، وليبيا لا وجود لها على الخارطة بغياب القذافي، حتى حانت لحظة نهايتهما البشعة.
وحتى بالنسبة لشخص مثل الأسد، الذي حارب ويحارب للبقاء، فهو على الأغلب يشعر بداخله بأن الرئاسة السورية جزء من إرث العائلة بعد أن ورثها عن والده حافظ الذي وصل إلى سدتها بانقلاب أيضا.
لكن كيف للمالكي أن يكون مثل هؤلاء؟ فهو وصل إلى السلطة بمحض الصدفة، ولم يكن عضوا بارزا في المعارضة العراقية، ولم يسمع به أحد قبل 2003، كما أنه بقي متنكرا وراء اسمين حركيين «أبو إسراء» و«جواد المالكي»، على الرغم من مرور ثلاث سنوات على سقوط النظام العراقي السابق، ولم يكشف اسمه الحقيقي إلا عام 2006 عندما اتفقت الأحزاب الشيعية على تسميته رئيسا للوزراء باعتباره الرجل الثاني في حزب الدعوة الإسلامية آنذاك، بعد أن رفضت بقية الكتل التمديد لزعيم الحزب السابق إبراهيم الجعفري لولاية ثانية.
المالكي جاء بعقلية انقلابية وبتخطيط مسبق للبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، بأي ذريعة ومهما كان الثمن، متناسيا حقيقة مفادها أن الزمن تغير ونحن لسنا في الخمسينات ولا في الستينات عهد الانقلابات وقيام الديكتاتوريات، بل نحن في عصر الديمقراطية، وإن كانت هشة، وزمن الثورات السريعة التي لا تمهل القادة طويلا.