هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

هلوسات جنونية!

سوف تضحكون عليَّ إذا ما رويت لكم النكتة التالية: قبل بضع سنوات وقعت بالصدفة المحضة على كلام لأحد كبار علماء الفلك الفرنسيين. وفيه يقول بأن الشمس سوف تنطفئ بعد خمسة مليارات عام أو ربما سبعة مليارات، لم أعد أتذكر بالضبط. وبالطبع فالحياة سوف تتوقف فورا على سطح الأرض وستموت البشرية جمعاء دفعة واحدة. والسلام عليكم. انتهت الحفلة..
ما إن قرأت الخبر حتى غطست في كآبة لا توصف وركبني هم وغم. بل واعتقدت أني سأموت على الفور. وفجأة استيقظت من غيبوبتي لكي أتساءل: يا هذا ما علاقتك بالموضوع؟ هل تعرف ما معنى خمسة مليارات من السنوات؟ هذه ليست ألف سنة أو عشرة آلاف سنة أو حتى مليون سنة، ولا حتى مائة مليون سنة. هذه خمسة آلاف مليون سنة. هل يعني لك ذلك شيئا يذكر؟ لماذا ترتعد وترتعب؟ هذه أرقام فلكية يعجز العقل عن تخيل أبعادها. فلتنته البشرية عندئذ وليرث الله الأرض ومن عليها. أين هي المشكلة؟ ثم ما هذه البشرية التي تحرص عليها، وكلها حروب ودماء وأحقاد لا تطفئها مياه دجلة والفرات؟!
وهكذا عدت إلى رشدي بعد عدة لحظات من الزعزعة العابرة وفقدان التوازن. في الواقع إنه يصعب علينا أن نقبل بنهاية أي شيء: نتمنى لو أن الحب يدوم، والصداقة تدوم، والوئام يدوم. ولكن في نهاية المطاف لا يدوم إلا الحي القيوم. قد يقول أحدهم: يبدو أنك تحولت إلى واعظ ديني في نهاية المطاف! ما سر هذا الورع المفاجئ الذي تتحفنا به؟ وما كنا نعهدك إلا مولعا بقصص الحب والمغازلات على طريقة عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني. بل وأحيانا تزعم بأنك مجنون ليلى أو جميل بثينة! هلوساتك الغرامية أصبحت معروفة للقاصي والداني. أما عن شطحاتك الجنونية فحدث ولا حرج! والآن تخرج علينا بلبوس جديد. فمن سيصدقك؟.. قلت: سبحان مغير الأحوال. الإنسان يفكر في آخرته كلما تقدم به العمر.
ولكن يبدو أني من الناجين والحمد لله، بدليل أن إحداهن قالت لي مؤخرا: يا إلهي ما أعظم طهارتك يا دكتور! بائنة على وجهك، خارجة من أعماقك الشيطانية. لولا العيب لقلت بأنك قديس أو ملاك. من أين لك هذا؟ ندق على الخشب..
وفجأة يجيئني صوت من العالم الآخر: ما هي آخر مطالعاتك يا شيخ العرب؟ ماذا يحصل عندكم في العاجلة؟ والله نحن هنا في الآجلة مشغولون بالنعيم المقيم والحور العين. لا هم لنا ولا غم. لا حرب ولا ضرب. فقط أكل وشرب وحب. حياتنا كلها عطل صيفية وشواطئ «ريفييرا» على مد النظر.. «وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون». فأخبرنا يرحمك الله. لكن رجاء وفّر علينا «غلاظاتك التنويرية» التي لا تحتمل ولا تطاق. نحن نعيش في أكثر العصور العربية إشراقا واستنارة، ولسنا بحاجة إليك وإلى أشكالك. نقطة على السطر.
ثانيا ادخل في صلب الموضوع من دون فذلكات جوفاء. آخر ما قرأت أيها السيدات والسادة مقابلة مع المفكر الإسرائيلي اليساري زيف ستيرنهل. وهو أحد مؤسسي حركة «السلام الآن» في إسرائيل وصاحب الكتب المعروفة عن فرنسا وعصر التنوير. نذكر من بينها كتابين أساسيين أو ثلاثة كتب: الأول بعنوان: «أعداء الأنوار في فرنسا منذ القرن الثامن عشر وحتى الحرب الباردة». وهو كتاب ضخم ومهم جدا بالنسبة لتاريخ الأفكار أو معركة الأفكار بين شقي فرنسا: العلماني الليبرالي/ والأصولي المسيحي. والثاني بعنوان «ولادة الآيديولوجيا الفاشية». وأخيرا الثالث صدر قبل أسابيع بعنوان: «التاريخ والأنوار.. تغيير العالم بواسطة العقل». وقد أكدت هذه المقابلة مخاوفي السابقة. وهي أن إسرائيل تريد بلع الضفة الغربية في نهاية المطاف. لماذا؟ لأنها يهوذا والسامرة: أهم توراتيا من تل أبيب! لقد اشتعلت حرب الأصوليات في المنطقة. والله سيحترق الشرق! وهذا ما قاله ريجيس دوبريه أيضا قبله بعدة سنوات. وبالتالي فلا سلام في المنطقة ولا من يحزنون.. المقابلة موجودة في «النوفيل أوبسرفاتور» وقد استشهد بها الطاهر بن جلون في مقالته الممتازة عن مذبحة غزة الشهيرة الصادرة في مجلة «لوبوان» الأسبوعية. يقول ستيرنهل بكل صراحة: «اليمين الإسرائيلي سيؤدي بسياسته الحمقاء المغامرة إلى كارثة لا مثيل لها. وهذه الكارثة هي في طور الحصول والسقوط على رأسنا الآن. إنه يريد بكل بساطة الاستيلاء على الضفة الغربية، وضمها من دون أن يصرح بذلك علنا. كما ويريد أن يقبل الفلسطينيون بهذا الأمر مذعنين، وأن يخضعوا صاغرين أمام جبروت القوة الإسرائيلية. إنه يتصرف الآن بطريقتين لتحقيق هدفه: طريقة داخلية وطريقة خارجية. فعلى المستوى الداخلي يسنّ قانونا يقول بأن إسرائيل دولة يهودية. وهذا يعني أنه يريد أن يقول لعرب إسرائيل الذين يشكلون عشرين في المائة من السكان والذين يحملون الهوية الإسرائيلية مثلي أنا بأنهم غرباء في وطنهم، لأنهم ليسوا يهودا. وأما على المستوى الخارجي فقد خلق واقعا لا مرجوع عنه بالإكثار من المستوطنات في الأراضي المحتلة. فالضفة الغربية أصبحت الآن مشكلة من نوعين من الناس: السكان الأصليون أي الفلسطينيين، وأبناء المستوطنات اليهودية. ومهما قيل وأشيع فهذه الحالة لا مرجوع عنها. أتمنى أن أكون مخطئا. ولكني أعتقد أن الحالة ميئوس منها. أقول ذلك على الرغم من أني أظل معتنقا لتلك الفكرة التي تقول بأنه عن طريق العقل يمكن تغيير العالم وتحسينه نحو الأفضل. ومعلوم أنها الفكرة الأساسية التي جاءت بها الأنوار الفرنسية».
قائل هذا الكلام ليس أي شخص. إنه أحد أهم المثقفين الإسرائيليين حاليا وأكثرهم شهرة على المستوى العالمي. وبالتالي فهو يعرف عما يتحدث وماذا يقول..
أخيرا، لكي أطمئنكم وأزيل هلعكم، سوف أقول ما يلي: بعد خمسة مليارات عام سوف ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي، وسوف تنتهي الفتنة الكبرى التي تلاحقنا منذ ألف وأربعمائة سنة. وربما انتهت أيضا مشكلتي الشخصية التي استعصت حتى الآن على كل حل أو علاج!..