نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

غزة في قاع القائمة

إذا ما أرخنا لحرب غزة منذ اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، فإن الحرب تكون على وشك إكمال شهرها الثاني، هذا إذا لم نحسب المناوشات التي سبقتها، والتي قتل فيها عدد من الشبان الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ومنذ بداية الحرب وحتى أيامنا هذه، برزت بوضوح شديد حقيقة أنها حكمت من كل جوانبها بدرجة عالية من سوء التقدير لدى اللاعبين الأساسيين والثانويين، وهنا سأحاول عرض الخلفيات الحقيقية لهذه الحرب، وكيف أن سوء التقدير أطاح بالنتائج المرجوة لمصلحة نتائج لا تزال غامضة حتى الآن.
أصدق أن نتنياهو ووزير دفاعه يعالون، لم يخططا، بل ولم يحبذا، حربا بهذا الحجم وعلى هذا المستوى، وأصدق كذلك أنهما جُرّا إليها تحت تأثير الجو السائد في إسرائيل، بعد مقتل المستوطنين الثلاثة، الذي لم يحسن نتنياهو تطويقه بقدر ما أحسن منافسوه في الحكومة استخدامه، وليس أدل على ذلك من مسارعة نتنياهو لقبول المبادرة المصرية، التي كان بندها الأهم وقف إطلاق النار، مما يجعل التدحرج إلى حرب برية أمرا غير حتمي، وهنا وقع رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه في قبضة المتشددين، فأفلت زمام الموقف من يده، مما اضطره إلى أن يركب موجة حرب لم يكن متحمسا لها، وأن يقبل منطق منافسيه الذين بلغ بهم الشطط حد الدفع باتجاه احتلال غزة كلها.
كان نتنياهو يفضل أن تظل إجراءاته الأمنية في الضفة وحربه المتقطعة على غزة، في سياق نمطي مألوف يكسب منه بالنقاط دون الاضطرار للمجازفات، وهنا يظهر جليا كيف يؤدي سوء التقدير إلى عكس ما يخطط ويسعى صناع القرار.
دون الإقرار بأن حماس هي من اختطف المستوطنين الثلاثة، فإنها حاولت جاهدة الاستفادة من الواقع وتوجيه رسائل لكل الذين حسبوا أنها ضعفت، بأنها لا تزال قادرة على تحريك الأهداف وقلب المعادلات، ومنذ بداية الاحتقان الناجم عن اختطاف وقتل المستوطنين الثلاثة، وحركة حماس تعمل على رفع درجة حرارة المواجهة في الضفة والقطاع، إلا أن وسائلها في الضفة، وبحكم عوامل موضوعية تعرفها جيدا، لن تكون حاسمة في أمر فرض مواجهة مسلحة أو إشعال انتفاضة شاملة، فكان أن نقلت ثقل المواجهة إلى غزة حيث الساحة المجهزة والقادرة والأكثر إيلاما لإسرائيل.
وكان يمكن لهذه المعادلة أن تكون نموذجية إذا ما ظلت في نطاق مسيطر عليه، إلا أن هذا التقدير بدا غير واقعي حيال الوضع المتفاعل بحدة في إسرائيل، الذي أملى في نهاية المطاف الاجتياح البري.
لقد أبهرت المقاومة العنيدة والفعالة الإسرائيليين قبل غيرهم، وألهبت مشاعر الفلسطينيين والعرب وأصدقائهم في كل العالم، وكان للخسائر الإسرائيلية النوعية في المواجهات أثر مباشر في إنعاش شهية حماس نحو مزيد من الصمود والمواجهة، وبالمقابل كانت أكثر من كافية لحمل الإسرائيليين على الثأر لصورتهم المهتزة بمزيد من القتل والتدمير، ومما زاد الأمور توترا على صعيد صناع القرار في إسرائيل أنهم، وبعد هذه الحرب الطويلة والشرسة، لم يقنعوا الرأي العام الإسرائيلي بأنهم نجحوا حتى في المهمة المحدودة التي ألزموا أنفسهم بها، منذ أول أمر عمليات نحو غزة، إلا أن المجد بحد ذاته لا يصلح أن يكون هدفا، ولا تستطيع حماس تجاهل الضغط الذي يولده استشهاد 1300 حتى الآن، كما لا تستطيع تجاهل النضوب المتسارع لكل مخزون حيوي يهم مصالح الناس وحياتهم، واضعين في الاعتبار أنه ومن دون هذه الحرب شربت غزة الماء المالح الممزوج بسموم المجاري.
لقد وصلت بطولة التصدي إلى أعلى الذرى، إلا أن عويل المنكوبين الذي يملأ الفضائيات ويراه القاصي والداني صار سلاحا إضافيا، بل وصار أساسيا تستخدمه إسرائيل لكسر عزيمة المقاومين وإشعارهم بفداحة ما ينتجه كل يوم تأخير لوقف إطلاق النار.
وحول إسرائيل وحماس، وهما اللاعبان الأساسيان في الميدان، يجري اقتتال من نوع آخر سمته تعظيم الأسهم في شركة حرب غزة، وكل طرف في هذا الاقتتال يبحث عن مكان في كادر الكاميرا، وبكل أسف كان هذا الاقتتال هو أحد أسباب تطور الحرب وارتفاع منسوب الدم.
إيران و«حزب الله» لم يقدما نفسيهما وسيطين، لأنهما يعرفان حدود قدرتهما على أمر كهذا، فكان أن التزما منذ الأيام الأولى بعض صمت وبعض همس إلى أن استقر موقفهما في سياق الآية الكريمة التي تقول: «حرض المؤمنين على القتال».
وتركيا التي بحثت عن درب ولو ضيق جدا في غابة الوسطاء، بدا بوضوح أنها أكبر من فقد البوصلة في هذه الحرب العاصفة، وزير خارجيتها يقول إن تركيا ستعمل مع مصر وأميركا وقطر لمعالجة الوضع في غزة، إلا أن ما أضعف مصداقية وزير الخارجية، هو موقف رئيس الوزراء إردوغان الذي لم يفلح حتى اللحظة في التخلص من عقدة السيسي. إنه يذرف دموعا غزيرة على أطفال غزة، إلا أنه فيما يبدو فقد القدرة على تمييز الألوان الفاقعة، فمن يتخذ موقفا عدائيا من مصر، فلا أمل له بدخول المعادلة، حيث الممر الإجباري المسمى معبر رفح.
أما الشقيقة قطر التي هوت إليها أفئدة كثيرين في الأيام الأولى لانطلاقة المبادرة المصرية، فلديها بعض رصيد يؤهلها لدخول المعادلة، ورصيدها في هذا الأمر بالذات يتجسد في كون رئيس المكتب السياسي ومعاونيه، يعيشون معززين مكرمين في الدوحة، في الوقت الذي أُغلقت في وجوههم كل الأبواب التي كانت مفتوحة، إلا أن رصيدا كهذا لا يملك مقومات منافسة فعالة، فلا مصر تريد دورا قطريا، ولا أشقاء قطر من دول الخليج يريدون، ولا إسرائيل التي تتعامل مع المبادرات بقوة النار ترى في قطر، التي هي الداعم الأساسي لحماس، شريكا في تسوية دور، فمن بقي إذن غير السلطة الوطنية وأميركا؟!
موقف السلطة يُقاس بقدراتها، فالقدرات متواضعة حين تحتدم المعارك بهذه القسوة، أما أميركا فلم يحدث منذ كان هنالك أميركا العظمى صاحبة الحل والعقد في كل أمر شرق أوسطي أن تحولت، أو، بالأحرى، تحول وزير خارجيتها ورئيس دبلوماسيتها إلى سفير للنوايا الحسنة، مثلما هي الآن، فما إن تصدر موقفا حتى تضطر إلى تصحيحه بمواقف أخرى، فلا نفوذ على الأرض، ولا ترتيبات فيها بعض فاعلية، وفي مسألة غزة بدت الدبلوماسية الأميركية ورقة تتقاذفها رياح عاتية.
وهذا الاقتتال على الدور والنفوذ من حول غزة، جعل هذه المدينة العظيمة بسكانها ومقاوميها.. وإن احتلت الصدارة في الأخبار والعناوين، فإنها في واقع الأمر انحدرت إلى قاع القائمة.