علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

هاتولي حبيبي.. يا ليل

رغم أني لم أفق من البنج بعد إلا أن صوت الأغنية كان قادرا على النفاذ إلى أعمق أعماقي. المطرب صوته قوي لدرجة لا تصدق، مطلع الأغنية يقول: هاتولي حبيبي يا ليل.
شعرت بالألم، هذا المغني أخذوا منه حبيبته وتركوه يغني أغنيته التعسة ليقلق خلق الله ويحرمهم من النوم. شعرت برغبة قوية في مساعدته، ولكني عاجز عن المشي، لا بأس.. لماذا لا أجرب أن أطير. الأمر المذهل هو أنني تمكنت من الخروج من النافذة سابحا في الهواء. استطعت الوصول إليه بسهولة، طلبت منه أن يتوقف عن الغناء قليلا ولكنه استمر في الغناء، توسلت إليه، وأخيرا هددته بأني سألجأ إلى الأمم المتحدة فلم يغير موقفه، فوعدته بأني قادر على أن آتي له بحبيبته، فقط أريد أن أعرف منه بعض المعلومات. توقف عن الغناء، سألته: هل تعرف أين حبيبتك؟.. هل هناك من يحتجزها بعيدا عنك؟ لماذا لا تذهب إليها وتحضرها بنفسك؟
فأجاب بسخط: وماذا تفعل الحكومة إذن..؟ أنا أريد حبيبتي وعلى الحكومة أن تحترم إرادة الشعب..
اتصلت ببرج المراقبة وطلبت الإذن بالإقلاع وتحديد الممر الجوي الذي سأطير فيه. بعد عدة ساعات هبطت في مطار الحكومة، كان في انتظاري مندوب من الإدارة العامة لتنفيذ إرادة الشعب، كان الرجل متعاونا. في دقائق أحضر حبيبة الرجل ووقعت على إيصال أمانة بتسلمها وتسليمها لحبيبها، طرت بها وعدت إليه، قلت له: لا داعي لتشويه سمعة الحكومة.. لقد احترمت إرادتك وأرسلت معي حبيبتك.
دخل بها غرفة النوم وخرجا بعد عدة ثوان ومعهما طفل وبدأ يغني: هاتولي مدرسة للواد ده.. يقعد فيها عشر سنين ويخرج منها وهو لا يعرف كيف يكتب اسمه.. يا ليل.
طرت على الفور إلى وزارة التربية والتعليم فبنت له مدرسة في دقائق، التحق الطفل بالمدرسة وكان محظوظا لم يخرج منها إلى الشارع كما حدث لعدد كبير من زملائه إلى أن حصل على الثانوية العامة، وبعد عملية غش جماعي انتظمت البلاد بطولها وعرضها، وقف إلى جوار والده في نفس الشارع وأخذ يغني بصوت أقوى من صوت أبيه: هاتولي جامعة ما بتعلمش حد حاجة..
شعرت باليأس، لا حد لطلبات المطربين هذه الأيام، طرت عائدا إلى غرفتي في المستشفى. لم أفق من البنج بعد، أصوات الأغاني تحاصرني من كل جانب، كل شارع، كل حارة أنبتت مطربا: هاتولي جريدة أشتغل فيها صحافي مع إني مش صحافي ولا لي دعوى بالصحافة وادفعوا خسايرها يا ليل.. ثم كورس يغني: هاتوا لنا القطاع العام اللي انتم بعتوه.. هل تبيعون ممتلكات الشعب يا أوغاد؟ رجعوه.. عشان يخسر واحنا ما نشتغلش وناخد الحوافز والأوفر تايم والأرباح.. يا ليل..
يبدو أنني بدأت أفيق من البنج، خفت أصوات الأغاني، لا أمل في إسكات هذه الألحان، فكل هؤلاء الذين يغنونها أقوياء، بل نجحوا في تصوير أنفسهم بوصفهم ممثلين لإرادة الشعب. هذه النوتة الموسيقية لن تتغير إلا بعد كارثة تكشف لهم أن ألحانهم وأغانيهم تجلب الخراب علينا جميعا.