بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

حرب طويلة.. ثم ماذا؟

يواسي محزونون بعضهم بعضا في فقد عزيز لديهم، فيقول أحدهم لآخَر: أتمنى أن تكون «آخِر الأحزان». يتقبل المُواسى ما قيل له قبولا حسنا، فيؤمِّن على ما سمع، متمنيا لمخاطِبه الشيء ذاته، من دون أن يدرك كلاهما أنهما، بلا قصد، يغفلان حقيقة أن أحزان مصيبة الموت، تحديدا، لا نهاية لها، إلا بانتهاء الحياة ذاتها، وأن العد التنازلي للعمر يبدأ من لحظة التكوّن، غير أن كليهما يتعامل مع الصدمة بما يخفف الوقع، بصرف النظر عن تلامس قول ما، والأهم فعل ما، مع الواقع أو إغفال تأثير صدمات ما يجري على الأرض من وقائع الأحداث، والإصرار على عناد يوصل لمزيد من المآسي تصيب المكتوين بلهب النار، كما هو الحاصل مع تواصل جحيم حرب غزة الذي يصب وابل العذاب على رؤوس العزل من الناس.
لكن، لا بد من وقفة قبل أن أكمل، ملخصها أن فضاء الرأي يجب أن يتسع لكل الآراء على اختلاف أطيافها، أيا كان الحدث موضوع الجدل، وما أكثر ما يثير الخلاف بين أصحاب الرأي بإعلام العرب منذ زمن طويل! لكن الأحداث تكاثرت في السنوات الأربع الأخيرة، ومع تمددها وتصاعد غليانها من تونس إلى مصر مرورا بليبيا، ومن العراق إلى سوريا مرورا بلبنان، وصولا إلى اليمن والبحرين، ثم الآن حرب غزة، زادت حدة التعبير عن المواقف على نحو تجاوز كل حد مقبول، وصار القول بمفردات مثل «التخوين» أو «المزايدة» أقرب للمقبول منه للمستهجن. هل ثمة ضرورة لأي من الحالتين؟ كلا، لو أن كل طرف التزم الحد المقبول من مساحة الخلاف، فلا يفَرِّط فلسطيني منتقد لسياسات حماس، أو ارتباطات تحالفاتها، هي أو غيرها من التنظيمات، في مشروعية حق شعب أي أرض في مقاومة أي احتلال أجنبي. وفي المقابل، لا يُفرط في الحماس مدافع عن حركة حماس، أو غيرها، فيسخِف الرأي المخالف، أو يذهب أبعد فيُخّون غيره ويزكي ذاته، بل ليته يتمهل فيذكّر نفسه، إنْ نسيت، ويأخذ في الاعتبار أن فلسطين هي وطن كل الفلسطينيين، أيا كانت آراؤهم وحيثما اتجهت مواقفهم، ما دام منطلق اختلافهم هو ولاءهم للأرض، وحرصهم على مستقبل أجيالهم.
الآن، نتنياهو يهيئ شعبه لحرب برية طويلة الأمد، مسنودة جوا وبحرا. السبب؟ تفكيك البنية التحتية لسلاح حماس وصواريخها، أي هدم ما تبقى من شبكة أنفاق تتجه من غزة شرقا وشمالا نحو إسرائيل، ثم إنها تتمدد غربا، باتجاه البحر. فوجئت خلال الأسبوع الأول للحرب بحديث الأنفاق هذا، ورجحتُ كفة أن آلة إسرائيل الإعلامية تنفخ فيه ضمن مبالغات الحرب الدعائية، فقد قيل منذ أزمان إن الحقائق أول ضحايا الحروب، ولن تشذ عن هذا السياق أي حرب. ثم إذ صعّدت إسرائيل الهجمة البرية، ولم تلقِ بالا لانتقادات معظم دول العالم إزاء فظاعات مشاهد القتل وتزايد الضحايا بين البشر، وخصوصا الأطفال، لفتني محاولة تل أبيب تبرير همجيتها تلك بالزعم أن صواريخ حركتي حماس والجهاد الإسلامي تنطلق من تلك الأنفاق. عندما تقصيت الأمر فوجئت بمن يخبرني بأن كثيرين في غزة فوجئوا هم أيضا بوجود تلك الأنفاق. قال لي أحدهم: «ربما هناك نفق تحت بيتي لا أعلم بوجوده». ونقل لي آخر ما زعمه محللون عسكريون في إسرائيل عن وجود ثلاثة آلاف نفق محكمة البناء توصل غزة بإسرائيل، وأن ما نجحت إسرائيل في تدميره حتى قبل أسبوع لا يفوق خمسة وثلاثين نفقا. وعندما سألته عن هامش المبالغة هنا، ضمن الحرب الدعائية، أقر بوجوده. لكن، مع ذلك، وجدتني أقول لمن حاورته، إنه لو صح أن حماس خلال سبع سنوات عجاف أمضتها في حكم غزة المحاصرة نجحت في بناء نصف ذلك العدد من الأنفاق، من دون أن تتمكن إسرائيل من إيقافها، فإن ذلك في حد ذاته نجاح يحق للحركة الفخر به، آخذين في الاعتبار ما أصاب الفلسطيني من ظلم، طال حتى التقليل من شأن إمكانياته كما أي ابن آدم آخر. أما أن ما وظف في بناء تلك الأنفاق وما استثمر من مال وجهد، كان بالوسع الاستفادة منه على نحو أفضل بكثير فوق التراب لا تحته، فتلك جدلية صحيحة أيضا، إنما لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيلها.
السؤال الآن، باختصار، هو: هذه الحرب الطويلة الأمد، كما يصفها نتنياهو، إلى أين؟ بدءا، يعرف ساسة إسرائيل السابقون منهم واللاحقون، أنهم بإطالة أمد الحروب لا يختلفون مع العقيدة السياسية لحركة حماس، بل يلتقون معها، وتحديدا عند مبدئها القائل ما خلاصته أن الصراع ليس «صراع حدود»، بل «صراع وجود». ما الجديد إذن؟ واضح أن شراسة هجمة تل أبيب هذه المرة تحمل رسالة لخصم «شرس»، كما وصف نتنياهو حركة حماس، سأغامر بفك شفرتها، تخمينا وليس استنادا لمعلومة، هي رسالة خلاصتها أن الخصم إذا تجاوز حدود دوره يدفع باهظ الثمن. وما الثمن هذه المرة؟ ليس أقل من إخراج حماس مع سلاحها وأخواتها من أنفاق غزة. ثم ماذا؟ إما احتمال اتفاق بين معسكري اليمين، الفلسطيني والإسرائيلي، وإما إعادة السلطة المطرودة من غزة، والتي سكتت عن طردها ذاك سبع سنوات، كي تحكم على أنقاض غزة. وماذا عن إعادة الإعمار؟ لا مشكلة، في أي من الاحتمالين، ثمة طابور من المقاولين، فكما جرى تعمير جنوب لبنان وبيروت بعد حرب 2006 يمكن إعادة بناء غزة عندما يهدأ غبار حرب 2014. وفي الأثناء؟ ليس لأهل غزة سوى الصبر وتحمّل الآلام، وتبادل العزاء، إنما آمل ألا يفرط البعض في التفاؤل فيظنها آخر الأحزان، أو الحرب الأخيرة. معذرة للتذكير، قدر هذه القطعة من كوكب الأرض أن تكون مقطوعة من أسفار آلام حروب مديدة شهدتها فترات متقطعة، منذ سِفر العهد القديم. لكن، تلك قصة تفاصيلها طويلة كذلك، ربما أمكن العودة إليها لاحقا.
[email protected]