عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أحبَّت الحياة ولم تخف الموت

الموت يأتي مفاجئًا حتى عندما يكون متوقعًا، لذلك جاء صاعقًا خبر رحيل الإعلامية اللامعة والصديقة العزيزة فوزية سلامة، «مدام فوزية» مثلما كنت أناديها دائمًا طوال علاقتنا التي امتدت 37 عامًا. عندما اتصل بي أخي وصديقي عادل نعمان، مخرج هذه الصحيفة، صباحًا يوم العيد، اعتقدت أنها مكالمة التهنئة المعتادة. لكنني سرعان ما لحظت غياب نبرته المرحة عندما نبدأ حديثنا، وقبل أن أسأل بادرني: «عندي خبر مش كويس». يا «ساتر»، كان ردي قبل أن يتابع: «فوزية.. تعيش إنتَ». سمعت لكنني لم أستوعب، فسألته مرتين وقلت: «مش سامع»، لكي يعيد الكلام، قبل أن أفيق من هول الصدمة.
حزن طاغٍ قبض على قلبي عندما اختليت بنفسي، وتسارع شريط الذكريات مع سيدة من أروع وأرق وأحن وأطيب من يمكن أن يلتقيهم المرء. إعلامية متميزة تتعامل مع عملها بجدية وصدق وتجعل كلامها دائمًا صادرًا من القلب، مفعمًا بالأمل والإيمان، لذلك لم يكن صعبًا أن يحبها مشاهدوها وقراؤها، بل كل من عرفها. هذا الحب كان ظاهرًا في التفاعل الهائل من الناس مع خبر مرضها وصراعها مع سرطان البنكرياس، ثم مع خبر وفاتها، وهو دليل على بصمتها وتأثيرها وقدرتها على اختراق القلوب.
لن أنسى أبدًا عندما تحدثت عن مرضها في مقابلة مع قناة «العربية». كانت ثابتة في كلامها، قوية في تعلقها بالإيمان والأمل في أن يكتب الله لها شفاء من المرض الذي كانت آثاره ظاهرة عليها. لكنها انهارت فقط عندما بدأت تتحدث عن الكم الكبير من رسائل الناس الذي أتاها محملًا بالحب وبالدعم والدعاء أن يشفيها الله. قالت وهي تغالب مشاعرها ودموع أبت إلا أن تفيض: «أنا حسيت إن أنا من غير ما أعمل حاجة، أثَّرت في حياة الناس، ودي نعمة كبيرة من عند ربنا».
هكذا كانت متواضعة في نظرتها لعملها ونجاحها الباهر. وهكذا أيضًا كان تأثرها بتفاعل الناس معها وحبهم لها. إلى جانب ذلك كانت إنسانة قوية، متفائلة بطبعها، قوية في إيمانها. كثيرًا ما رددت أثناء مرضها: «أنا مستعدة للموت أو للحياة لأن ضميري مرتاح»، وكانت تنظر إلى المرض «لا كعقاب، بل كاختبار وكجزء من رحلة التعلم»، لذلك تمسَّكت بالإيمان.. «الذي يمنحني القوة»، وقاتلت السرطان بشراسة، لم تفقد الأمل حتى عندما اشتد الألم.
لم أكن أقرب الناس إلى فوزية، بل كان هناك من هم أقرب مني، ومن هم على تواصل أكثر معها، لكن جمع بيني وبينها رباط قوي من الحب الأخوي والاحترام المهني، وعلاقة لم يؤثر فيها الزمن، ولم تمر عليها لحظة واحدة تكدرها. دخلنا مهنة الصحافة الاحترافية من باب واحد في توقيت متزامن. جمع من الشباب انضموا إلى عدد من المهنيين المتمرسين في التجربة التي أطلقها عام 1977 الراحل المقيم رشاد الهوني مع ابن عمه أحمد الصالحين الهوني، عندما صدرت صحيفة «العرب» من مبنى صغير في ضاحية كنغستون جنوب غربي لندن. بقيت وتوطدت علاقتنا وزمالتنا عندما انتقلنا إلى مؤسسات مختلفة أو عندما جمعت عددا منا «المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق» تحت مظلة صحيفة «الشرق الأوسط» أو في مطبوعاتها الأخرى التي تولت منها فوزية رئاسة تحرير مجلة «سيدتي»، ثم مسؤولة تحرير مجلة «الشرق الأوسط» قبل أن تتجه إلى العمل التلفزيوني في مؤسسة «إم بي سي» الذي اختتمته في «كلام نواعم».
في الفترة ما بين التاسع والحادي عشر من يوليو (تموز) الحالي تبادلنا بضع رسائل بعدما بادرتني برسالة ودودة ضمنتها مشاعر وذكريات وبضعة أسطر عن اشتداد المرض عليها، وعن معاناتها مع الأدوية والزيارات للأطباء. قالت: «لا أريد سوى السلام والهدوء»، وشددت على أنها ستبقى متمسكة بالإيمان والتفاؤل رغم كلام الأطباء بأنه لم يبقَ في مشوار حياتها الكثير. لا أدري لماذا اختارت في تلك الرسائل أن تسر لي بخوفها، لا من الموت لأنها مؤمنة بقضاء الله، لكن من آلام المرض في المراحل الأخيرة. ربما كان ذلك لعلاقة الود المقيم، أو ربما لأنها تعرف أنني عايشت تجربة هذا المرض الخبيث مع زوجتي، رحمها الله.
في مقابلة صحافية أُجريت معها حول تجربة مرضها قالت: «حين توضع كلمة النهاية سأقول لربي يا رب أحسن استقبالي لأني حاولت أن أكون إنسانة لا تؤذي الناس بالقول أو بالفعل». اللهم ارحمها أوسع رحمة وأسكنها فسيح جناتك، وأنزل الصبر على وحيدتها عبلة التي ورثت عن أمها كل صفاتها الجميلة، وعلى زوجها المحترم الدكتور مجدي الذي شاركها أيضًا في حب الناس، والعزاء موصول لأسرتها كافة ولأصدقائها ولكل محبيها.
أخيرًا، وجدت السكينة وارتاحت من الألم، لكنها تركت فراغًا كبيرًا.