زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

روح الفكاهة عند الفراعنة (2)

نعم.. كانت النكتة والطرفة جزءا أصيلا من نسيج ومكونات الشخصية المصرية خلال العصر الفرعوني؛ وأكثر من ذلك فقد جرى توظيفها لنقد المجتمع وأوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكانت وسائل التعبير، كما ذكرنا في مقال سابق، عن الفكاهة عند الفراعنة مختلفة.. فظهرت في صورة مكتوبة؛ مثل العبارات المتبادلة بين العمال والصناع في المناظر المصورة على جدران المقابر.
ومثال على ذلك، الحوار المتبادل بين اثنين من النحاتين وقد صوِّرا وهما يقومان بنحت تمثالين؛ أحدهما من الخشب، والآخر من الحجر، وذلك على جدران إحدى مقابر النبلاء بالجيزة التي تعود إلى عصر الأسرة الخامسة (2200 قبل الميلاد)؛ أما النحات الذي ينحت الحجر فيقول: «كلت يدي ومضت أيام طويلة وأنا أعمل في هذا التمثال، ويبدو أنني لن أنتهي منه أبدا»؛ فيجيبه زميله ساخرا - بينما يضع اللمسات النهائية على تمثال من الخشب: «اشتغل اشتغل، ولا تكن غبيا فليس الحجر كالخشب». وبينما كانت النكتة المكتوبة قليلة أو حتى نادرة؛ كانت المصورة على العكس من ذلك شائعة، وأكثر وأقوى تعبيرا في مجتمع معظمه لم يكن يكتب أو يقرأ.
وقد تناولنا من قبل نماذج مما أطلقنا عليه الكاريكاتير الفرعوني، واليوم نتحدث عن نماذج أخرى كانت لها دلالتها.
فحينما أراد الفنان الفرعوني السخرية من أحوال الطبقة المعدمة من المجتمع صور راعيا شديد النحافة بصورة مبالغ فيها؛ حتى ليكاد يقترب شكله إلى الهيكل العظمى إن لم يكن أشد نحافة؛ وقد صور هذا الراعي المسكين وهو يجر بقرة ثمينة بصورة مبالغ فيها أيضا؛ وقد امتلأ ضرعها باللبن حتى ليكاد يلامس الأرض. وبالطبع، المعنى واضح وجلي، فهذا الراعي البائس رغم كونه يرعى مثل هذه البقرة الثمينة التي لا يملكها، فإنه يكاد لا يجد قوت يومه أو يسد رمقه! وربما كانت هذه بشائر ثورة عارمة ورسائل مستترة على أن هناك خطأ ما لا بد من علاجه. وفي كاريكاتير آخر تكرر بصور مختلفة، نجد قطا ثمينا يرعى أوزا، أو ثعلبا يقوم برعي قطيع من الأوز ويعزف لهم على الناي ليسحرهم.
ومثل هذا الكاريكاتير كان تعبيرا عن تولي من لا يصلح لمناصب أو وظائف لا تناسبه، والعجيب أن نجد مثلا شعبيا مصريا، لا يزال منتشرا، يقول: «مسّكوا القط مفتاح الكرار» - أي بيت الخزين، والقط آخر ما يؤتمن على مكان كهذا! وفي كاريكاتير ظريف، نجد حارسا على مخزن حبوب وقد راح في سبات عميق، تاركا الباب مفتوحا! وكان هذا عنوانا على الإهمال واللامبالاة التي انتشرت في مجتمع بدأ يتكاسل عن العمل والإنتاج.
وعندما بدأ المجتمع الانهيار والخضوع للغزاة الأجانب، صور كاريكاتير فأرة منعمة (أميرة أجنبية) تقوم على خدمتها ووضع زينتها خادمة كانت يوما أميرة مصرية. وكاريكاتير آخر يصور الفأرة المتصابية تلك وهي في زينتها كاملة تشرب خمرا وبيدها تفاحة وتستعد لالتهام أوزة مشوية تقدمها لها قطة هزيلة من شدة الجوع. ومنظر آخر لفأر أجنبي صار يحكم ويتحكم وهو يأمر قطا بتأديب شاب مصري بضربه بالعصا على ظهره.
وللتعبير عن تغير الأحوال واختلال الموازين، نجد اثنين من الجديان يجلسان متقابلين وبينهما رقعة الشطرنج وقد راحا يتنافسان في اللعب، وحمار يستولي على كرسي القضاء ليحاكم الناس وحاجبه ثور قوي، بينما المتهم قط مصري أصيل. لقد كانت النكتة تعبيرا ومتنفسا لفضح أوضاع ما كنا نحلم بلمسها في زمن سحيق من عمر مصر، حفظها الله من كل شر وسوء.