إميل أمين
كاتب مصري
TT

الحريات الدينية والهجرات القاتلة

قبل عدة أيام قدَّم وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الكونغرس التقرير السنوي الذي تعده وزارته والخاص بالحريات الدينية في العالم لعام 2013.
يلفت الانتباه بداية إلى أن الترويج للتقرير يمضي انطلاقا من أنه جامع مانع، وأن واشنطن هي «امرأة قيصر» التي لا تخطئ أبدا، بينما عليها مراقبة أخطاء العالم وكشف خطاياه شرقا وغربا، وهي نرجسية غير مستنيرة بالمرة، فالقاصي والداني يعلم ما وراء مثل هذه التقارير، ومحاولة الولايات المتحدة تطهير ثوبها من أدران سياساتها حول العالم.
على أن الأكثر إثارة في التقرير ما يتعلق بالهجرات القاتلة وعمليات النزوح التي شهدها العام الماضي لأعضاء الطوائف الدينية، والتي وصفت بأنها الأكبر على مر التاريخ؛ ففي كل ركن من أركان المعمورة تقريبا اضطر الملايين من المسيحيين والمسلمين والهندوس، وغيرهم ممن يمثلون مجموعة واسعة من الأديان إلى هجر منازلهم بسبب معتقداتهم الدينية.
يستدعي تقرير الخارجية الأميركية الكثير من علامات الاستفهام تبدأ بالدور الأميركي ذاته، والذي غالبا ما يكون مدخل الأقليات بالنسبة له ضربا من ضروب البراغماتية السياسية الأميركية التي تباعد بينها وبين السياسات المثالية، وذلك في سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية العليا.. هل ما يجري حول العالم هو ردة حضارية إنسانية؟
إن نظرة سريعة على الكثير من البقاع والأصقاع حول الكرة الأرضية تقودنا إلى القطع باليقين لجهة شيوع وذيوع حالة من الانغلاقات الحضارية والتقوقع القبلي، والبحث عن الجذور الراديكالية في آن واحد، مع ازدياد المد الديني الأصولي، وصعود اليمين المتطرف، وجميعها ظواهر ما كان لها أن تطفو على السطح في ظل العولمة واستحقاقاتها من تداخلات بين البشر، تلك التي جعلت الأرض «قرية كونية»، على حد تعبير عالم الاجتماع الكندي الشهير مارشال ماكلوهان.
ما الذي يعنيه التقرير حال الإشارة إلى قيام حكومات في مناطق كثيرة حول العالم بإخضاع أعضاء الجماعات الدينية لسياسات قمعية وقوانين تمييزية، وممارسة التهميش والحرمان من الحقوق والتمييز في تطبيق القوانين؟
قطعا تفيد بأننا إزاء التحول من زمن الهويات القاتلة إلى الهجرات القاتلة، لنصل إلى عالم متناحر من جراء يقظة القوميات، وإحياء الفاشيات، عطفا على ازدياد مستويات الصراعات العقائدية، وارتفاع معدلات التيارات الشوفينية.
الهجرات الدينية الإجبارية الأخيرة باتت وعن حق تنذر بانفجار إنساني، إذ تجاوزت النقاشات التنظيرية للفلاسفة والمفكرين أو علماء الاجتماع والمحللين، ذلك لأنها تخطو ومن أسف إلى قلب الكراهية المجانية للآخر المغاير لنا شكلا، رسما أو اسما، وعادت بنا إلى زمن التمييز العنصري والتنكيل الإثني والمجازر المتبادلة، أي نحو تآكل كل ما يشكل الكرامة الخلقية لحضارتنا الإنسانية.
خطورة الهجرات الدينية أنها تولد اضطرابات ديموغرافية ستضحى ولا شك، قنابل موقوتة حكما ستنفجر إن آجلا أو عاجلا، وترتب عداوات وثارات تاريخية، الأمر الذي يجعل من الآخر هو الجحيم كما ذهب إلى ذلك جان بول سارتر فيلسوف فرنسا الوجودي الأشهر.
لا تتوقف الاضطرابات الدينية عند حدود بلاد الإسلام والمسلمين، وإن اعتبرهم البعض البطن الرخو في المواجهات التاريخية الدينية المعاصرة، وحال المسيحيين في العراق وسوريا، يغني عن السؤال، بل تتخطاها إلى دول المسيحية السلافية كما الحال في الصراع الدائر في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، أما الصين فتحرق فيها الكاتدرائيات الأقدم ويطارد المسلمون الإيغور من قبل السلطات، والهند التي تعتبر أم الديمقراطيات تختار رئيس وزراء قوميا هندوسيا وقف ساكنا أمام حرق المسلمين والمسيحيين على حد سواء من قبل.
لماذا صار العالم على ما هو عليه الآن من بؤس إنساني؟
يقول كثير من اللاهوتيين والفقهاء، إن بحوثا مستقلة أجريت مؤخرا أشارت إلى أن «التعصب الديني في حالة تقدم»، وهو أمر ينسبونه إلى عدم الاستقرار السياسي، وبسبب حالة التشابك والتداخل الحالية حول البسيطة في العقود الثلاثة الأخيرة.
هل من علاقة بين فشل الدولة القومية وازدياد تصاعد المد الديني الذي يقود لهذه الهجرات؟
قد ينطبق الجواب هنا على العالم العربي بشكل خاص؛ ذلك أنه حال فشل الدولة القومية في القيام بدورها الكلاسيكي فإن الناس حكما سيبحثون عن معنى يكون أوسع وأكبر وأكثر قوة من الفشل الذي يختبرونه من حكوماتهم، وهكذا يقدم الدين مجموعة بالغة المرونة من التقاليد التي يمكن أن ينسج المرء على منوالها في أوقات الإجهاد.
التقرير الأميركي ينذر بعودة عالم الهويات المتقوقعة وسيادة فكر «الجيتو القروسطي»، حيث الأقليات الدينية تهجر من بلادها، كما جرى مع يهود أوروبا، ولم يجدوا لهم وقتها من ملاذ سوى بلاد العرب ملاذا.
إنها عولمة الصعود لهاوية الذهنيات المتعصبة والبربريات المستجدة.. هل هذه هي نهاية المطاف؟ أم أن ما يجري هو مكر التاريخ كما يقول هيغل، الأمر الذي يبقي لنا مسارب من الأمل في الفكاك من هذا القدر غير المنقوش على حجر؟
إلى حديث آخر بإذن الله.
* كاتب مصري