سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

البحرين و«الربيع» العربي

سئل الدكتور شريف بسيوني رئيس لجنة تقصي الحقائق التي شكلها العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى إثر أحداث فبراير (شباط) 2011 فيما سمي بالربيع العربي، ما تقييمك لما حدث في البحرين؟ فقال: هناك أخطاء كبيرة حدثت أثناء فض الاعتصامات تستوجب التصحيح، لكن ملخص الأمر، الوضع في البحرين لم يكن يحتاج إلى (ثورة).
حين تولى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة الحكم بعد وفاة والده، خاض المجتمع البحريني تجربة «نمو ديمقراطي» فريدة من نوعها في المنطقة تستحق أن تعرض كحالة دراسية، بكل ما تحملها من مطبات للفشل ومن قصص للنجاح، فحزمة الإصلاحات السياسية التي جرت في البحرين أشاد بها البيت الأبيض في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، ثم ودون سابق إنذار فوجئت البحرين بعد أربعة أشهر فقط من تاريخ هذه الإشادة، وإذ بسيد البيت الأبيض أوباما في فبراير 2011 في زخم ما سمته واشنطن (بالربيع العربي) وإذا به يمسحها بجرة قلم ويطالب البحرين بإجراء إصلاحات سياسية «ذات مغزى» ماذا وإلا!!
لنتساءل نحن شعب البحرين كيف تحولت الإصلاحات المشاد بها إلى إصلاحات غير ذات مغزى خلال أربعة أشهر؟ وكيف لجماعة خاضت الانتخابات للتو وفازت بكامل قائمتها (18 مقعدا) أن تنسحب من المجلس النيابي المنتخب مدعية أن الإصلاحات شكلية؟!
قبل أن نقيم حزمة الإصلاحات التي صوت عليها المجتمع البحريني وأقرها بنسبة 98.4 في المائة بما فيها من انسحب وتنصل، نرجع قليلا للوراء لنرى الصورة بشكل أوضح، إذ يمتلك المجتمع البحريني من الأساس «قاعدة مدنية» تؤهله أكثر من غيره من مجتمعات دول مجلس التعاون لتحمل ثقل استحقاقات النمو الديمقراطي، أتحدث هنا عن «مؤسسات مدنية» عريقة وقديمة المنشأ بكل تلاوينها النقابي والثقافي والمهني والنوعي، عن حريات شخصية، عن تعددية إثنية ودينية وعقائدية، عن وضع الأقليات، عن المرأة في البحرين، تلك مكتسبات تاريخية للمجتمع البحريني تمتد إلى العشرينات من القرن الماضي، حيث جرت أول انتخابات بلدية شاركت فيها المرأة، وتشكلت نواة للمؤسسات المدنية من أندية وجمعيات نسائية وثقافية ومهنية منذ الثلاثينات (اليوم بلغت نسبة المؤسسات المدنية في البحرين مؤسسة لكل ألف مواطن، وهذه نسبة لا توجد حتى في الدول الديمقراطية العريقة)، ومارس المواطن والمقيم في البحرين معتقداته الدينية بكل أريحية دون اعتراض من الدولة ودون استهجان من المجتمع، ففي الكيلومتر المربع الواحد تجد الكنيسة والمسجد والحسينية والمعبد اليهودي ومقبرة للهندوس جنبا إلى جنب، والمرأة في البحرين تحتل موقعا خاصا؛ فلها حرية المعتقد وحرية التنقل وحرية اختيار مواقع العمل دون تمييز أو قيود وتشكل أكثر من 32 في المائة من القوى العاملة في القطاع الخاص، تلك العناصر تشكل قاعدة صلبة لأي نمو ديمقراطي تتسع فيه دائرة المشاركة السياسية لتنتقل من الحكم الفردي المطلق إلى العمل المؤسسي الحزبي والتمثيل النيابي وفصل السلطات لتصل إلى تقييد السلطات الملكية بأطر دستورية، وهذا ما حصل في عام 2002، فحين تولى الملك حمد بن عيسى آل خليفة الحكم بعد وفاة والده تقدم بحزمة الإصلاحات التي أشاد بها البيت الأبيض.
جاء الملك حمد عام 2000 وتقدم بـ(بَكِجْ) تصالحي مع القوى السياسية، يعيد به العمل للحياة النيابية التي أقرها في دستور الاستقلال، دستور 1973، والذي عاش لمدة عامين ونصف ثم عطل هذا البند لمدة 25 عاما، فجاءت حزمة الإصلاحات لتعيد العمل بهذا البند لكنها خفضت نسبة المشاركة في الصلاحيات التشريعية فقط، وزادتها في الصلاحيات الرقابية لصالح الإرادة الشعبية.
فبعد أن كان ثلثا المجلس الوطني من نواب منتخبين، بينما هناك ثلث معين هم الوزراء الذين كانوا أعضاء في المجلس (كما هو حال الكويت)، أصبح للتشريع غرفتان لكل منهما أربعون عضوا، إحداهما منتخبة انتخابا حرا مباشرا، والثانية معينة من قبل الملك، وتخلى عن الاختصاصات الرقابية بالكامل وتركها للغرفة المنتخبة، فللنواب المنتخبين اختصاص توجيه الأسئلة للوزراء وتشكيل لجان التحقيق والاستجواب وطرح الثقة ولهم رفض التعاون مع رئيس الوزراء، وهي الأداة الرقابية الوحيدة التي كانت مشتركة مع الغرفة المعينة حتى تم حصرها في الغرفة المنتخبة في تعديلات 2012.
إنها نقلة نوعية وقفزة كبيرة في دولة لم يمض على انتقالها من حكم الإمارة إلى نظام «الدولة» سوى ثلاثين عاما، وخطوة جبارة إذا احتسبناها ضمن محيطها الجيوسياسي، خاصة أن الدستور المعدل نص على حق المرأة بالمشاركة السياسية انتخابا وترشيحا ونص على تشكيل الأحزاب وحرية تشكيل النقابات والاتحادات النوعية وأضاف بنودا تصب في صالح النمو الاقتصادي الحر حيث نص على منع الاحتكار وسرعة البت في التشريعات ذات الطابع الاقتصادي، والأهم أن التعديلات الدستورية الجديدة نصت على قيام محكمة دستورية لضبط الإيقاع التشريعي وضمان سلامته، وجميعها إضافات لم تكن موجودة في دستور 1973.
تلك كانت قاعدة قوية للنمو الديمقراطي مع ما يتمتع به المجتمع البحريني من تطور مدني كما ذكرنا سابقا، كان بإمكانها أن تصبح نموذجا فريدا في المنطقة لو أعطيت الفرصة الكافية للنضج وتراكم الخبرات، لنرى انعكاساتها على نظام الحكم في واحدة من أصغر دول مجلس التعاون، إنما مع الأسف صوتت الأحزاب السياسية على هذه الحزمة وقبلت بها، ثم أرادت أن تحرق مراحل النمو الديمقراطي، فقاطعت أول انتخابات اعتراضا على التعديلات الدستورية، لكنها حين مارست (ديمقراطيتها) على نفسها، أسست أول حزب سياسي في البحرين بناء على عقيدة مذهبية، فجاءت «جمعية الوفاق» جمعية ليست خالية من السنة فحسب، بل خالية من الشيعة الذين يخالفون عقيدة الولي الفقيه، جمعية حكرا على «أتباع آل البيت» كما عبر عنها أحد الأعضاء المؤسسين، جمعية تخضع بالكامل لسلطة «مجلس علمائي» يرأسه رسميا رجل دين شيعي هو نائب لخامنئي وممثل له في المجالس العلمائية خارج إيران، فكانت المسمار الأول الذي دق في نعش هذه التجربة الوليدة، ثم تلاه تأسيس حزبين (سنيين) الأول لجماعة الإخوان المسلمين والثاني لجماعة السلف، ومن بعدهم توالى تشكيل الأحزاب فجاء اليسار من المنفى وشكل الشيوعيون الصينيون حزبهم والشيوعيون الروس حزبهم!! استفادوا من كل الأجواء الانفتاحية ليكملوا مراحل الصراع مع الحكم، عجزوا عن استيعاب الدولة كما حاولت الدولة أن تستوعبهم وبدلا من أن يكون الصراع ضمن إطار الدولة الدستورية، واصلوا الصراع مع الحكم بمنطق الثورة، وخلال عشرة أعوام أصبح لدينا 23 حزبا سياسيا لهم موازنة مدفوعة من الدولة بنص القانون ومعظمهم مرجعياتهم (الدينية السياسية) من خارج البحرين (للعلم تعداد البحرينيين لا يصل إلى 700 ألف نسمة) فتشكل لنا مجلس منتخب منقسم إلى كتلة إيمانية (شيعة) وكتلة إسلامية (سنة)... وهكذا كان مخاض التجربة الديمقراطية في البحرين، إنها فعلا تجربة تستحق أن نتوقف عند تشوهاتها الديمقراطية ومواقع حسنها.