د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

حرب تكسير العظام في غزة

ساعة كتابة المقال كانت الحرب في غزة قد دخلت مرحلة عالية من الاحتدام تجعلها حرب تكسير العظام بين تنظيم حماس وحلفائه من التنظيمات الفلسطينية من جانب، وإسرائيل بجانب آخر. لم تعد الحرب نزهة إسرائيلية تتجول فيها الطائرات في سماء غزة وتحول حياة أهلها جحيما بالتدمير للبشر والبيوت تارة، والرعب الذي يدفع شعبا للجوء للمرة الألف ربما لكي يكتظ داخل المدارس تارة أخرى. يمكننا أن نتخيل هذه الحالة من الخوف والفزع والحزن مع سقوط القتلى ونزف الجرحى. ومع دخول الجيش الإسرائيلي إلى غزة في حملة برية أصبح «اللحم» الإسرائيلي قريبا من النيران الفلسطينية، وبعد أن كان عدد القتلى الإسرائيليين لم يتعد اثنين في الأيام الأولى للحرب، إذا بالعدد يصل إلى 33 ساعة كتابة المقال. صحيح أن عدد القتلى من الفلسطينيين اقترب من الألف، والجرحى بضعة آلاف، والبيوت آلاف مثلها، ولكن ذلك كله أصبح له ثمن، ليس فقط سقوط عشرات من الجنود الإسرائيليين، ولكن أيضا توقف رحلات شركات الطيران الدولية إلى مطار بن غوريون. أصبحت إسرائيل تعرف معنى الحرب، ربما ليس بقدر ما يعرفه الفلسطينيون، ولكن الدماء الفلسطينية لم تعد بلا ثمن، ولا تزال الحرب في مراحلها الأولى، لأن كلا الطرفين لم يعد قادرا على قبول وقف إطلاق النار؛ لأن معناه خسارة الحرب كلها.
بغض النظر عن الطريق الذي أوصل الفلسطينيين والإسرائيليين إلى الحرب، فقد بدأت بسلسلة من المفاجآت؛ الأولى منها جاءت من الجانب الإسرائيلي عندما ظهر مدى كفاءة نظام القبة الحديدية في حماية المدن الإسرائيلية الكبرى، وفي لحظة من اللحظات بدا أن إسرائيل تستطيع التعايش مع الخطر، ولكن سرعان ما تولدت الضغوط الداخلية لكي تواجه الحكومة الإسرائيلية حالة الخوف التي أربكت حياة إسرائيل. هنا أتت سلسلة من المفاجآت الفلسطينية بدأت بكثافة الصواريخ الفلسطينية التي عكست مخزونا غزيرا لا يمكن تكوينه من خلال التهريب إلى القطاع. لقد كان الفلسطينيون إذن يصنعون هذه الصواريخ التي قد تكون بدائية، أو أن أجهزة التوجيه فيها غير دقيقة، إلا أن إطلاقها وإرسالها يصل إلى مكان ما، ومهما كان القصف عشوائيا فإن ضيق المساحة الإسرائيلية يجعل هناك هدفا في مكان ما. المفاجأة الأخرى أن الصواريخ الفلسطينية وصلت إلى مديات غير متوقعة، نتيجة تخفيض حمولة الصواريخ من المواد المتفجرة أصبحت هذه تصل إلى مسافات كبيرة، وكما يقال في مصر «العيار الذي لا يصيب يِدْوِش». المفاجأة الثالثة كانت ظهور الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها من خلال شبكة أنفاق لم تكن إسرائيل وأجهزة مخابراتها تعرف عنها شيئا.
ضع هذه المفاجآت الفلسطينية بعضها مع بعض، وانظر إلى ما توصلت إليه أجهزة صنع القرار الإسرائيلي، وهو أن هناك داخل غزة وتحت أرضها الكثير مما لا تعرفه، ومن ثم سوف يستحيل تركيب حسابات القوة وفهمها، ومن هنا كان قرار الغزو البري للقطاع. باتت المسألة مفاجأة إسرائيلية، أن تأخذ قرارا تعرف تماما أنه يغير من طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين غزة وإسرائيل. فطبيعة الحرب قبل الغزو كانت تقوم على علاقات غير متكافئة للقوة، حيث تستطيع إسرائيل أن تقصف القطاع برا وبحرا وجوا بخسائر قليلة، وكثير منها معنوي، وحتى بعد أن أعلنت حماس النصر منذ الأيام الأولى فإن العالم كان يعرف تماما ما الذي يجري على الأرض. ولكن الغزو البري ودخول القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة حول الحرب غير المتكافئة أو غير المتساوية أو المتعادلة إلى حالة أقرب إلى التكافؤ منها عندما كان الضرب عن بعد. فعندما يكون هدف إسرائيل البحث وتدمير الأنفاق ومصانع الأسلحة، فإنه يصبح عليها الدخول في شوارع وحوارٍ وأزقة ومخيمات في ضيقها يتساوى المتقاتلون.
هكذا دخل الطرفان إلى مأزق، فإسرائيل التي دخلت حربا ظنتها نزهة، وجدت نفسها في مواجهة خطر أكبر، وخطر الصواريخ الذي جرى تحييد الجزء الأكبر منه عن طريق القبة الحديدية باتت له آثار غير متوقعة من ناحية، ولكنه، مضافا إلى الأنفاق، جعل الكتلة السكانية الإسرائيلية في خطر كبير. لا أظن أن إسرائيل كان لديها خطة للتعامل مع هذا المأزق لأنها الآن لا تستطيع البقاء داخل غزة وتحمل عملية نزف مستمرة ومتصاعدة، والحكومة الإسرائيلية سوف تكون مطالبة بأن تحصل على نصر قوامه ما حصلت عليه بعد الحرب البرية على جنوب لبنان التي سكتت المدافع والصواريخ بعدها ولم تقم لـ«حزب الله» قائمة بعد أن وجد في الحرب السورية نوعا آخر من النضال. حماس على الجانب الآخر دخلت مأزقا هي الأخرى، فقد قررت أنها انتصرت في الحرب منذ إطلاقها لأول الصواريخ، وبالتأكيد بعد أن حصلت على أسير إسرائيلي، أما وقد وصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى عشرات، فإن بيارق النصر باتت زاعقة مهما كانت الحالة في غزة. حماس لا تستطيع أن تصل إلى هذه الحالة من النصر (راجع خطاب السيد خالد مشعل يوم الأربعاء الماضي) ثم بعد ذلك تعود الأحوال في غزة بعد تدميرها إلى ما كانت عليه. الهدف الفلسطيني لا بد أن يكون الآن رفع الحصار عن غزة وفتح كل المعابر حولها، وهو هدف كان ممكنا تحقيقه لو تم تسليم هذه المعابر للسلطة الوطنية الفلسطينية كما هو مقرر في الاتفاقيات الخاصة بها، ولكن حماس تريد المعابر، مع الأنفاق، تحت سيطرتها تماما.
النتيجة أن كلا الطرفين بات يطلب ما هو أكثر مما يستطيع تحقيقه، ومن ثم لم يعد هناك بد لدى إسرائيل وحماس من تكسير العظام حتى يئن طرف منهما. معضلة إسرائيل أنها لا تستطيع تحقيق ما تريد إلا بالعودة إلى احتلال غزة، وهو كابوس لم يعد الإسرائيليون يرغبون فيه، كما أنه لا يوجد ما يجعل ذلك حلا ناجعا للمأزق الإسرائيلي. ومعضلة حماس أن طول فترة الحرب لا تجعل التضحيات الفلسطينية تزيد فقط، ولكنها سوف تجد هناك من يتساءل عن الأهداف الفلسطينية التي تحققت على طريق التحرير والاستقلال والدولة وعاصمتها القدس الشرقية، فضلا عن عودة اللاجئين إلى أرض فلسطين.
هل يبدو الطريق مسدودا إلى هذا الحد؟ العالم لا يعتقد ذلك، على الأقل حتى وقت كتابة هذا المقال، فما زالت المساعي الدولية والإقليمية نشطة، وهناك مبادرات ومبادرات أخرى مضادة ربما يلتقطها الطرفان ويكتشفان فجأة أن واحدة منها تكفي لكي يعود الجميع إلى المواقع التي بدأ بها القتال، ربما لاستيعاب كل المفاجآت السابقة. إذا فشل هذا السيناريو، فربما سوف يكون واجبا كتابة مقال آخر عن حرب غزة الجديدة!