محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

الفنان المستمر

يعيدون اكتشاف رسّـاميهم وفنانيهم في بريطانيا وفي سواها في الغرب، بينما لا يوجد تقدير مماثل لا بالنسبة لفنانينا العرب ولا بالنسبة لشعرائنا أو موسيقيينا أو لأي ممن عملوا في ربوع التاريخ الإسلامي والعربي وكان لهم شأن كبير في الأدب والعلوم والهندسة المعمارية أو في أي زاوية فنيّـة قبل اختراع الصورة المتحركة. بعد اختراعها القليل من التقدير السينمائي تم تحقيقه. كل ربع قرن أو نحوه هناك فيلم عن أحد الأدباء أو الفنانين: الأديب طه حسين مثّـله محمود ياسين في «قاهر الظلام» لعاطف سالم‫ سنة 1978. نصف مشروع عن جبران خليل جبران لم ينته العمل عليه ولا شيء عن ابن سينا أو ابن خلدون أو محمد عبد الوهاب أو فيروز أو محمود درويش أو أبو الطيب المتنبي أو روزا اليوسف أو أنور وجدي أو جورجي زيدان وتستطيع أن تضيف لهذه القائمة المزيد من الأدباء والفنانين والمثقفين الذين صنعوا مجد الأدب والفن والثقافة في أكثر من بلد عربي، ثم رحلوا حين توفوا ورحلوا مرّة ثانية حين تحوّلوا إلى مجرد أثر.
في «المتحف الوطني لولز» National Museum of Wales يعيدون اكتشاف رتشارد ولسون، أحد أهم رسّـامي الطبيعة في أوروبا (على الأقل) وربما أفضل رسّـامي ولز البريطانية. إذا ما استخدمت غوغل لما هو مفيد وكتبت اسمه فستحصل على عدد من المواقع التي تشترك جميعها في الإشارة إلى فن هذا الرسّـام الذي طبع الطبيعة في رسوماته على نحو لم يفعله بالأسلوب الصادق ذاته سوى قلّـة. وهل هناك ما هو أصدق من تلك اللوحة التي وضعها سنة 1770 (والبعض يقول: إنه رسمها ما بين ذلك العام والعام 1775) عن ثلاث نساء عند حافة نهر يهممن بالسباحة فيه؟
هن مجرد شخوص بعيدة جدّا بحيث لا نتبيّـن شيئا يذكر عنهن. جل اللوحة هو المحيط الطبيعي للمكان. هناك مقدّمة داكنة نوعا بسبب أن الشمس موضوعة في الخلفية بعيدا، ثم شجرة منبثقة إلى اليمين بكل تفاصيل ممكنة وسهل ممتد ثم النساء وبالقرب منهن بقرة وعدد من الكلاب ثم تل في الخلفية مع ما يبدو أنه جزء من قلعة بعدها إلى اليسار شجرة أخرى باسقة وأرض بعيدة عند الطرف الآخر من النهر مع ثلاث شجرات وظلالها على سطح الماء ثم منزل وبعده جبل ثم طبيعة أخرى بعيدة. كل ذلك موضوع في إطار واحد بألوان تتميّـز بالحساسية وبالقدرة على الملاحظة.
ولسون ولد نحو سنة 1713 وتوفي سنة 1782 لديه لوحات طبيعية كثيرة سيعرضها المتحف بمناسبة ذكرى ولادته علما بأن نوعا من التجاهل ساده خلال العقود الثلاث الأخيرة مع تعدد المناسبات والتكريمات التي عرفها ذلك المتحف خلال تلك الفترة.
والأمر لا يتوقف على المتاحف. قبل أشهر قليلة شاهدنا فيلم مايك لي الجديد «مستر تيرنر» عن رسام طبيعة آخر هو جيمس تيرنر الرسام اللندني الذي وُلد سنة 1775 وتوفي سنة 1851 أي أنه عاش ومات في الفترة ذاتها. قارن بين رسومات ولسون وتيرنر وستجد أسلوبين مختلفين تماما وأنا ممن يفضلون أسلوب ولسون من دون بخس حق تيرنر.
لكن المهم هو أنه لا رسامونا ولا موسيقيونا ولا ممثلونا ولا مخرجونا ولا أدباؤنا من شعراء وروائيين يجدون من يهتم بهم. طبعا سيكون الوضع فادحا فعلا لو أن متاحف بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا والنمسا والولايات المتحدة خالية الوفاض من هذا التقدير للفن وهي التي أنشئت له، أو لو أن السينما لا تنقل السير البيوغرافية عن كل مشاهير الغرب وسواه ليس بخجل بل بكثرة.
عندنا العكس تماما. نحن على النقيض تماما فحتى حين كنا لا زلنا نستطيع إنتاج أفلام بكثرة كنا لاهين عن المفيد في تحقيق أرباح بتوظيف الرديء والركيك والسخيف لأجل فن آخر اسمه الربح المادي.