طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

التشابه غير المقصود.. مقصود!!

أكثر من تحذير يسبق عرض مسلسلات رمضان، وهو يؤكد على أن أي تشابه بين هذه الأحداث أو الشخصيات مع الواقع ليس له أساس من الصحة. تعود المشاهد أنه بمجرد أن يقرأ هذه العبارة تتصدر العمل الفني، حتى ولو توافر حسن النية لدى الكاتب والمخرج، فإنه يبدأ في البحث عن أوجه التماثل وخطوط الالتقاء مع أحداث تناولتها الصحافة واحتلت مساحة في «الميديا»، وكل هذه الوقائع تختلط فيها الحقيقة مع الخيال، ومع مرور الزمن تذوب الفروق بينهما. الإنسان بطبعه يعيد تشكيل الحادث قبل أن يستقر في ذاكرته. الزمن يطرح بين الحين والآخر حكايات صاخبة، تحتل المقدمة وتُصبح هي العنوان، ثم يخفت تدريجيا الاهتمام بها، حيث تجري بعدها أحداث أخرى تحتل البؤرة، وينتظر الإنسان حافزا خارجيا لكي يتذكر بعضها، وهناك عدد من المسلسلات التي تلعب دور الحافز.
مسلسلات رمضانية فتحت مستودع الذاكرة لدى الناس. المشاهد بمجرد أن تُطالعه تلك اليافطة التي تنفي التشابه يقدح زناد فكره ويستدعي من أرشيفه الخاص أحداثا متماثلة، وبعدها يردد بصوت مسموع تصل أصداؤه خارج حدود منزله ليزعج جيرانه قائلا «وجدتها وجدتها».
فهل هو حقا صار «نيوتن» الدرامي الذي يجلس على الأريكة وأمامه مشروبه الرمضاني المفضل وطبق المكسرات ويكتشف أن المسلسل المعروض أمامه يحمل تجسيدا لتلك القضية الشهيرة؟ العديد من الجرائم يعيشها الرأي العام لحظة انطلاقها ويتابعها بشغف لأن هناك العديد من الخيوط التي ربما تكون خافية عنه وعندما تتحول إلى عمل الدرامي يراه البعض في البداية وكأنه فزورة مكشوفة، لكن نظرة سريعة على العديد منها تكتشف أن هذا يرمي إلى استدعاء حادث مقتل ابنة الفنانة، وذاك يحاكي مقتل المطربة الشهيرة، والثالث يعيد صياغة حياة مسؤول كبير في الدولة. ويسارع الناس باختبار ذاكرتهم، هذا فلان وتلك فلانة، وعلى المقابل تجد سيلا منهمرا من التكذيب الذي يعلنه صُناع العمل الفني، ويتحول التراشق الصحافي والإعلامي مع الورثة إلى تشويش يؤثر على حالة التلقي حيث لا يترك في الحقيقة مساحة للتأمل لدى المشاهد. بعض الفنانين صاروا متخصصين في ترويج العديد من الحكايات لإثارة شهية المشاهد المتخم بعشرات من المسلسلات، لكي يدير المؤشر إلى هذا المسلسل تحديدا.
الواقع عبر كل الأزمنة هو وقود الإبداع، وهناك من يعتبره مادة خام يعيد تشكيلها كما يحلو له، والبعض يأخذه بحالته الراهنة، معتقدا أن سخونة الحياة تكفي لصناعة دراما جيدة، إلا أن هذا الأمر يجافي الحقيقة لأن الفن له قانونه الخاص.
نجيب محفوظ استلهم حياة السفاح محمود أمين وقدمه باسم سعيد مهران في رائعته «اللص والكلاب»، ولن تجد أبدا في العمل الروائي تشابها في الوقائع بقدر ما يرتكن إلى اللمحة والمغزى. أراد أديبنا الكبير أن يمسك بهذا الخيط وهو أن السفاح ليس فقط من يقتل بيديه ولكن هناك مثقفا يبيع الوهم للناس، وهو سكين أكثر حدة وأشد إيلاما لأنها تقتل بنصل بارد.
أغلب ما شاهدناه في المسلسلات الرمضانية لم يتجاوز السطح. أخذ الكُتاب الخطوط العريضة واعتبروا أن الوقائع المثيرة تكفي، وهكذا مثلا فإن حادث مقتل المطربة رأيناه حتى الآن في ثلاثة أعمال درامية لأنه يكشف زواج أصحاب السلطة برؤوس الأموال. وفي العادة يموت العمل الفني الرمضاني في شوال، ويغضب الورثة، ولكن ينقذ صناع المسلسل أمام القانون تلك اليافطة التي تؤكد أن التشابه غير مقصود، بينما الكل يدرك أنه مقصود مقصود!!