علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

يا نخلتين في العلالي

في طفولتي لم يكن المغني يدخل مباشرة في الأغنية، بل كان يمهد لها بموال يطول أو يقصر، ثم يدخل في يا ليل يا عين. والهدف من ذلك هو تأهيل المستمع للدخول في عالم النغم لكي يستمتع أكثر بالأغنية، ولكي يستمتع المستمع لا بد أن يسبق ذلك أن يستمتع المغني، وهو ما كان يسمى بعملية «السلطنة»، لا بد أن يتسلطن المغني من خلال أدائه غير المقيد باللحن لليالي والموال، لكي يتمكن من نقل حالة السلطنة إلى المستمع.
كلمة «سلطان» في الثقافة الشعبية تعني أعلى درجات الرضا والتفرد والاستمتاع، إنها الحالة العقلية والمزاجية التي يشعر فيها الإنسان بأنه ارتفع عن الأرض وأنه يحلق في السماء، وبمعنى معاصر من قاموس علم النفس هي لحظات يخفت فيها صوت الوعي بغير مخدر وينشط عندها اللاوعي بكل ما فيه من سحر وجمال، وفي المصطلح الشعبي نقول: «فلان سلطان زمانه» ونقول: «النوم سلطان»، ويقول الأستاذ أحمد رامي من خلال حنجرة أم كلثوم الذهبية: «حبيبي.. يسعد أوقاته، على الجمال سلطان» ثم يوجد صلة قوية للغاية بين حالة السلطنة والفرحة عندما يقول: «في نظرته، وابتساماته، فرحة.. فرحتك يا زمان»، يا للخيال الجميل، هي فرحة ولكنها ليست أي فرحة، إنها فرحة الزمن.
هذه هي حالة السلطنة التي يريد المغني أن يضع فيها المستمع من خلال الموال والليالي، والموال يقدم صورة عبثية قبل أن نعرف مسرح العبث بمئات السنين، هي عبثية وجميلة كأغاني الأطفال التي لم يؤلفها أحد، يقول الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من خلال صوت محمد رشدي الفلاحي الجميل: «عاشق يقول للحمام.. هات لي جناحك يوم.. أروح أشوف الحبيب، وأرجع في نفس اليوم.. أفرّح القلب وانظر وجه محبوبي، وأرجع يا حمام».
غير أن إيقاعات الحياة في مصر بدأت تتسارع فحذف المغني الليالي وحصر الموال في كلمات قليلة، ولعل أجمل ما سمعته من عباس البليدي (1914 - 1996) وهو صاحب صوت مصري جميل، قال: «يا نخلتين في العلالي، الحب تالتكم.. حبيبي في قربكم والاّ بعيد عنكم.. عدّيني يا معداوي واديك ريالين فضة.. مجروح وحبيبي مداوي، تتمنى العين يرضى.. عديني البر التاني».
الشائع أن كلمات الموال هي «يا نخلتين في العلالي.. يا بلحهم دوا» غير أن المؤلف لم يهضم حكاية البلح والدواء، ورأى من خلال اللاوعي المبدع دورا آخر أكثر أهمية، أهم ما يميز النخيل هو الارتفاع، لذلك هو يسأل النخلتين، هل تريان حبيبي بالقرب منكما.. أو بعيد عنكما؟
ثم يدخل في موضوعه على الفور، النهر يفصل بينه وبين الحبيب، ويبدو أن المعداوي يرفض العبور براكب واحد، لذلك يعرض عليه المحب ريالين فضة، وهو مبلغ كان يستطيع به في ذلك الوقت أن يعبر بحر المانش.. ولكنه الحب.. ربنا يكفيك شره.
[email protected]