بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

قتل أعمى من غزة.. إلى الموصل

أي شرع أو عرف يستطيع تبرير أن تحاصر دبابات جيش «الدفاع» الإسرائيلي ثلاثين عائلة فلسطينية ليس بوسع أي فرد منها دفع القذائف والهرب من حمم القنابل نحو أي شارع؟ حصل ذلك في خزاعة خان يونس، ومن قبل شهدت شوارع الشجاعية من الفظائع ما اهتز له ضمير كل ذي حس، لكن نتنياهو وأركانه من جهة، وزعامات حماس في المقابل، أصروا ولا يزالون على مواصلة المأساة - كما حصل من قبل مرات عدة - بكل ما لديهم من «شجاعة» الدفع بالعزل قرابين لمناورات سياسية تخصهم، ولو باسم رفع حصار ظالم عن الفلسطينيين، أو الدفع برعب صواريخ «العصف المأكول» بعيدا عن الإسرائيليين. يتطلب الوصول من قطاع غزة إلى موصل العراق قطع مسافة طويلة، لكن ثمة ما يصل بينهما بلا حاجة للسفر: قتل بشر أبرياء عزل لأهداف تدعي وصلا بدين أو إخلاصا لوطن. ثمة ما يوجب التفصيل، لكنني أستعيد من ذاكرتي الصحافية صورة ذات صلة بما يجري، وإن بعدت عشرين سنة.
في الربع الأول من عام 1994 حصل أن العالم انتبه فجأة إلى تجاوز ضحايا مجازر رواندا حاجز النصف مليون. كان ذلك التنبه متأخرا جدا، إذ عندما بدأت التغطية تحتل مساحة أول خبر على الشاشات، وعبر أعمدة الصفحات الأولى، كان نهم شهية القتل والانتقام المتبادل بين زعامات قبائل التوتسي والهوتو قد تغوّل، فقفزت أرقام الضحايا خلال أيام إلى أكثر من مليون قتيل، حصاد أسوأ إبادة جماعية شهدتها نهايات القرن العشرين. استدعت الذاكرة تلك الصورة في لحظة مقارنة بين سرعة اهتمام الدول الكبرى، ساستها، شعوبها، وإعلامها، بانفجارات المنطقة العربية، وآخرها حرب غزة، وبين درجة الاكتراث بما يحصل نتيجة مآسي صراعات عدة في مختلف قارات العالم، بصرف النظر عن هول المأساة أو أعداد الضحايا وحجم الدمار.
بالطبع، لاهتمام دول العالم بمنطقة الشرق الأوسط أسباب معروفة لكل متابع لعلاقة المنطقة بصراع مصالح عالمي قائم منذ محاولات السيطرة على تقاطع طرق التجارة العالمية التي تمر بها، ومصادر الثروة الطبيعية فيها، قبل اكتشاف منابع النفط بقرون. مع ذلك، خصوصا إذ تمر المنطقة بتقاطع طرق خطير، لعل من المفيد التذكير أن الاهتمام الدولي بها سابق في الأصل لمنافع الجانب الاقتصادي، بل ويسبق حقيقة أنها مهبط الديانات السماوية الثلاث، إذ هو ذو ارتباط مباشر بكونها مهد حضارات كان لها تأثير فاعل في تشكيل بدايات وعي إنسان الحاضر، الذي نهل أجداده الأولون من نبع علوم الحضارة الفرعونية وفنونها (لفتني في العدد الأخير لمجلة «فورتشن» مقال كتبه إيرين غريفيث عن انتشار ظاهرة التعبير بالرموز - EMOJI – فعنون مقاله: «عودة إلى الهيروغليفية»)، وكذلك الحال مع الحضارة البابلية، الآشورية، السومرية، والفينيقية. ثم من أرحام تلك الحضارات ومخاضاتها شهدت المنطقة ولادة إمبراطوريات صارع بعضها بعضا من أقاصي الشمال الأفريقي إلى سواحل الأبيض المتوسط وشواطئ الأسود، ومن أدغال آسيا الوسطى إلى تخوم بحر قزوين، فتنقّل الإسكندر الأكبر بين مشارق الأرض ومغاربها، وحمل كليوباترا، ملكة جمال مصر ووريثة عرشها إلى روما. ثم إن الفرس سادوا بضع سنين على الروم، لكن هؤلاء أعادوا الكرّة فغلبوهم، وفرح لانتصارهم المؤمنون زمن صدر الإسلام، خصوصا إذ توافق نصر أهل الكتاب ذاك مع يوم موقعة بدر.
أين العجب إذن، إذا استقطبت منطقة مثل الشرق الأوسط بكل إرثها الحضاري وتراثها الديني، ثم ثرائها الاقتصادي، اهتمام أقطاب العالم المؤثرين؟ العجب بالفعل أن يقلل بعض أهل المنطقة من قدْرها، والأعجب أن يتنطع بعضهم فيستقطع من موروثها الديني ما يتناسب مع أجندة سياسية وضعها له غيره، تعزيزا لحضور، أو خدمة لدور، أو كليهما معا.
في سياق ذلك الاهتمام بتطورات المنطقة ومفاجآتها الساخنة، من الطبيعي أن تؤدي المواجهة بين إسرائيل وحركة حماس إلى تراجع مساحة الاهتمام بتقدم «الدولة الإسلامية» في مساحات شاسعة بالعراق وسوريا. وكما أن نتنياهو أخفق في الاستفادة من فرصة تحقيق تقدم على طريق السلام مع الفلسطينيين، مباشرة بعد توصل الرئيس محمود عباس لاتفاق مصالحة مع حماس، وقبل خطف المستوطنين الثلاثة، فقد أخفق من جديد في حصر رد الفعل على ما تبع الخطف، فأقدم على قصف أهل قطاع غزة جوا وبحرا ثم التقدم برا، وانتقلت صور فظائع قتل مئات المدنيين العزل وتهجير عشرات آلاف الأسر الفلسطينية من بيوتها وقراها في شمال غزة، إلى بيوت الناس في قارات العالم الخمس، فتقدم تأثيرها المؤلم على ما عداه من آلام، ومنها تهجير ميليشيات «الخليفة» أبي بكر البغدادي لآلاف العائلات المسيحية بالموصل وتخيير من بقي منها بين اعتناق الإسلام بالإكراه، وبين دفع الجزية أو قطع الأعناق بسيوف الإرهاب. لكن التراجع المؤقت لاهتمام الإعلام العالمي بتغطية جرائم ميليشيات «داعش»، مناسبة للتذكير بأن مواجهة بشاعات تلك التنظيمات هي مسؤولية المسلمين بالدرجة الأولى، وخصوصا مرجعياتهم الدينية، إذ هم أولى من غيرهم بحماية دينهم وإرث حضارات منطقتهم، قبل أن يبتلع الطوفان ما تبقى من أمل.
حقا، أثمة وضع أكثر إيلاما مما آلت إليه المنطقة؟ أما بلغ الأذى اللاحق بالإسلام على أيدي بعض الزاعمين انتسابا له مداه، أم أن الآتي أفظع؟ أما شبع عشرات قادة التنظيمات الزاعقين ظاهرا باسم فلسطين، وباطنا خدمة لأطماع آخرين في المنطقة، أم أن قدر الفلسطيني أن يتحمّل من الآلام ما يفوق قدرة البشر، هو يخسر اليوم والغد فيما غيره يخطط للمستقبل؟ ليس لأحد ادعاء معرفة ما يخبئ الغيب على وجه التحديد، إنما التسليم بأن كل مقَدّر واقع لا محالة، لا يعني الاستسلام للكسل. على العكس من ذلك، يجب توقع الأسوأ والاستعداد لتبعاته، لأن التخطيط غالبا يوصل لنتيجة أفضل، ومن دونه ليس من بديل سوى التخبط في غياهب المجهول.
[email protected]