عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

كيف نفهم حرب غزة؟

قد لا نفهم أبدا السياقات التي سبقت جولة الحرب الجديدة على غزة، ولا الأسباب الحقيقية لاندلاعها في هذا التوقيت. فقضية اختطاف وقتل الشبان اليهود الثلاثة في الخليل، إذا كانت هي فعلا الشرارة التي أدت إلى العدوان الإسرائيلي، لا تزال محاطة بكثير من الغموض حول الجهة الفاعلة والمستفيد الحقيقي. فإسرائيل سارعت إلى اتهام حماس وهددتها بدفع الثمن، بينما ردت الحركة بنفي علاقتها متهمة نتنياهو بمحاولة استغلال الوضع لشن حرب، ومهددة في الوقت ذاته بأن إسرائيل ستدفع ثمن عدوانها. ما بين التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحماس صدر بيان منسوب لتنظيم «داعش»، وما أدراك ما «داعش»، يتبنى العملية ويقول إنها نفذت انتقاما لاغتيال ثلاثة من عناصر التنظيم في الخليل قبل نحو عام.
بيان «داعش» قوبل بالتشكيك من قبل من رأوا فيه محاولة لخلط الأوراق، كما أطلق العنان لخيال أصحاب نظرية المؤامرة، بين من رأى فيه محاولة لإعطاء هذا التنظيم الغامض هالة باعتباره بات ممتدا من سوريا إلى العراق وفلسطين، وبين من اعتبره محاولة لتشتيت الاتهامات الإسرائيلية لحماس في عملية خطف ثم قتل المستوطنين. ضمن هذه النظريات كان هناك من اعتبر البيان محاولة من التنظيم لإشعال حرب في غزة تصرف الأنظار عن عملياته وتمدده في العراق، لكن الذين تبنوا مثل هذه الفرضية نسوا أن تنظيمات مثل «داعش» تبحث في الواقع عن الأضواء وتتنفس من أكسجين الدعاية الإعلامية، وبالتالي فإنها لا تفكر في صرف أي اهتمام عن عملياتها في العراق أو في غيره، بل تريد دوما تضخيم صورتها وحجمها.
إسرائيل بالتأكيد استغلت الوضع لشن عملية واسعة في غزة معلنة أنها تريد تدمير الأنفاق الفلسطينية ووقف إطلاق الصواريخ، وهي أهداف قديمة - جديدة لا علاقة لها بالرد على عملية خطف وقتل المراهقين اليهود الثلاثة. اللافت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استخدم خطف المراهقين أيضا للهجوم على السلطة الفلسطينية وعلى المصالحة المعلنة حديثا عندما قال في معرض اتهامه لحماس بالوقوف وراء عملية الخطف «هذه هي الحركة التي شكل معها محمود عباس حكومة توافق وطني». هذا الهجوم كان استمرارا لموقفه الرافض والمتشدد ضد المصالحة الفسلطينية منذ إعلانها والذي أوقف بموجبه المفاوضات مع السلطة مخيرا عباس «بين المصالحة مع حماس أو السلام مع إسرائيل».
الهجوم العنيف من نتنياهو وحكومته على المصالحة الفلسطينية التي تشمل تشكيل حكومة وفاق وطني وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، يعني أن ضربها قد يكون من بين الأهداف التي أرادت إسرائيل تحقيقها من العدوان الشرس على غزة. وإذا كان هذا الهدف الإسرائيلي مفهوما في ظل الرغبة المستمرة لمنع لمّ الشمل الفلسطيني، كيف يفسر المرء اندفاع حماس نحو مواجهة معروف سلفا ما ستجلبه على غزة وأهلها المغلوبين على أمرهم الذين لا يستشارون في قرار الزج بهم في حرب جربوا مثلها من قبل ولم تزد إلا معاناتهم. فبعد توقيع اتفاق المصالحة وبدء خطوات تشكيل حكومة الوفاق كان من المنطقي ومن الأجدى أن تعمل حماس المستحيل لتفويت فرصة المواجهة على إسرائيل، بل كان من المفترض أصلا ألا تنفرد بقرار الحرب، وأن تتشاور مع السلطة بدلا من تخطيها في قرار مثل هذا سينعكس سلبا على العلاقة بين الطرفين وعلى اتفاق المصالحة، وسيؤثر على سكان غزة ويجعل حياتهم أصعب مما هي عليه.
حماس قد ترى في المواجهة مع إسرائيل مكسبا لها يعزز من صورتها التي اهتزت كثيرا بسبب الواقع المرير في غزة، ويسحب من رصيد السلطة الفلسطينية التي تعرف أنها ستجد نفسها في موقف سيئ وهي تتفرج عاجزة على العدوان في غزة. هذه الحسابات قائمة على تجارب سابقة في التعامل مع رأي عام تحركه العاطفة لا العقل، وبات بفعل سجل العجز والنكسات يرى في أي مغامرة بطولة بغض النظر عن نتائجها. فها نحن نسمع من يهلل اليوم لحماس ويتحدث عن انتصارات المقاومة وعن صواريخ الكرامة، على الرغم من كل الدمار الذي حل بغزة وأهلها، وعلى الرغم من العدد الكبير من الضحايا الذي قد يصل بنهاية الحرب إلى ما بلغته أرقام ضحايا حرب 2008 - 2009 التي قتل فيها أكثر من ألف وأربعمائة فلسطيني وجرح نحو أربعة آلاف مقابل عشرة جنود إسرائيليين وثلاثة مدنيين. وقتها أيضا سمعنا عن الانتصارات وعن تحقيق أهداف المقاومة، بينما الواقع أن الانقسامات الفلسطينية زادت، ومعاناة أهل غزة تفاقمت والحصار عليهم اشتد والمعابر بقيت مغلقة مخلفة اليأس والعذاب. ما أشبه الليلة بالبارحة وما أقسى عذاب الفلسطينيين.