عمر شبانة
شاعر وناقد فلسطيني
TT

تاريخ من التحولات

أنظر الآن، إلى آلاف الكتب التي تنقلت معي، بين عواصم عدة، وفي بيوت مختلفة، واتخذت صورا من صور المكتبات البيتية، في الخزانة، في غرفة النوم، في المطبخ، إلى أن استقرت منذ سنوات في غرفة مخصصة لها وحدها، وأرى كيف صارت مكتبة حقيقية تمتد على ثلاثة جدران، من أرضية الغرفة حتى سقفها، فأقف أمامها مذهولا، ومتسائلا وحائرا.. كيف تكوّنت وتزايدت واتسعت حتى لم أعد قادرا على التعامل معها؟، رغم ترتيبها حسب الموضوع، حيث للشعر رفوف، وللقصة وللرواية وللمسرح والفنون وللدراسات و، و، و، للقديم وللجديد، وخارج الترتيب ثمة الكتب التي جاءت حديثا وتنتظر إلقاء نظرة عليها.
منذ الكتاب الأول الذي يشتريه الفتى، من المدخرات القليلة التي يخصمها من مصروفه اليومي، تبدأ مشكلة المكتبة الخاصة في سؤال «أين سأضع كتابي هذا، حتى لا يقع تحت عين الرقيب، ربّ الأسرة، الأب». ففي سن مبكرة بدأ الفتى يسعى إلى كتب غير الكتب المتوفرة في مكتبة الوالد، فقد قرأ القرآن عشرات المرات، وقرأ كتب الأحاديث والتفاسير، قرأ سيد قطب وسيد سابق، وقرأ خالد محمد خالد «من أين نبدأ؟»، وبقية سلسلة الكتب «الإخوانية» من محمد غزالي وزينب وسجنها. وكانت المكتبة الفقيرة في المدرسة ذات التوجه الإسلامي أيضا، ولم تكن مكتبة النادي الإسلامي لتختلف كذلك، و، و، و، كان لا بد من جديد مختلف.
أي أن الفتى بات يتشوق إلى عالم يسمع عنه، وكانت المكتبات القديمة في عَمّان، في شارع سقف السيل.. كتب قديمة ومستعملة، كنا نسميها «كتب البالة»، ومن بين الكتب الأولى في المرحلة الأولى، كتب نوال السعداوي، وما زال في الذاكرة كتابها «الأنثى هي الأصل»، بلا غلاف أول، ولكن العنوان كان مغريا للاقتراب والاقتناء، ولم يكن الثمن قليلا، لكن الثمن الحقيقي كان «علقة» من الوالد (الإسلامي)، الذي فوجئ بالنقلة الخارجة على القانون، لكنها نقلة ستتواصل معها مساعي البحث عن الجديد المختلف.
بعد هذه الحادثة، انفتحت الطريق، في البداية، على الكتب «المختلفة»، ألف ليلة وليلة، السير الهلالية وأشعارها، كتب السحر والشعوذة. وفي مرحلة تالية جاءت كتب الشعر العربي القديم، ثم الأدب العالمي المترجم، وخصوصا الروايات الروسية، ثم الكتب الماركسية، وصولا إلى الشعر العربي الحديث، السياب والبياتي ونازك، والعربي الأحدث، درويش والقاسم وعبد الصبور وحجازي وأدونيس، حتى قصيدة النثر العربية وأبرز رموزها.
ومنذ البداية أيضا، شعرت مع كل كتاب أحصل عليه بأنه ثروة لا يجوز تبديدها، وإذا لم أستفد منه أنا، سيأتي من يستفيد منه، ولذا فلست ممن يتخلص من أي كتاب، وقد يكون هذا عائدا إلى الحرمان وصعوبة الحصول على الكتب في البدايات، وحتّى موضوع إعارة الكتب للأصدقاء، فهو موضع تفكير، فليس كل صديق قابلا لأعيره شيئا من كتبي، وليس كل كتاب قابلا للإعارة، فثمة كتب لا أسمح أبدا بإعارتها، لكنني كثيرا ما أفاجأ بكتب تختفي من مكتبتي، فأعرف من سرقها، وغالبا ما يكون ذلك الصديق الذي طلب كتابا واعتذرت منه، فيسرقه. ماذا أفعل؟
الكتب أيضا، ورغم وجود الغرفة المخصصة لها، والمكتبة التي فصلتها زوجتي لتلمها فيها، إلا أن عادة اصطحاب الكتاب إلى غرف البيت المختلفة، تجعله موجودا في كل مكان من البيت تقريبا، وهذا ما يزعج جميع من في البيت، وليس الزوجة فقط، ومهما حاولوا إعادة الكتب المتناثرة، فسوف تعود وتتناثر بحسب تنقلاتي في البيت.
المكتبة التي هي ثروة في الأساس، قد تبدو عبئا علي أحيانا، فأشعر بالقهر تجاه الكتب التي لم أجد الوقت لقراءتها، وأشعر بالحزن أنني لا أستطيع أن أرى كتابا جديدا ولا أشتريه، وكلما عدت إلى البيت بكتب جديدة، تتجدد المناوشات حول جدوى إضافة كتب جديدة، لكن الكاتب لا يكف عن متابعة كل جديد، حتى آخر يوم في حياته. وأفكر كثيرا بإجراء «غربلة» لمحتويات مكتبتي، لكنني سرعان ما أتراجع تحت ضغوط مختلفة.

* شاعر وناقد فلسطيني