سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«داعش» على الطريقة الإسرائيلية

بحسب دراسة نشرت في مجلة «أميركان بوليتكال سينس»، شاركت فيها كل من آنا جيتمانسكي من «مركز هرتزل» في إسرائيل، وتوماس زيتزوف في «جامعة واشنطن» - فإن تساقط الصواريخ الآتية من غزة على إسرائيل يزيد من تطرف الإسرائيليين، ويدفع بهم إلى اقتراع أكثر يمينية، بسبب إحساسهم الشديد بالخوف. وترى هذه الدراسة أنه كلما اقتربنا جغرافيا من غزة، ووصلنا إلى المناطق الأكثر عرضة للنار، وشعر السكان بالخطر، تصبح الآراء أكثر تطرفا.
وللتذكير فقط، فإن الصواريخ المتواضعة الصنع والخائبة التوجيه، التي خرجت من غزة طوال 12 يوما ردا على عملية «الجرف الصامد»، مثلا، لم تقتل إسرائيليا واحدا، بينما قتلت الصواريخ الإسرائيلية، في المدة عينها، أكثر من 250 فلسطينيا، وتسببت في سقوط أكثر من 1800 جريح وهدم 350 منزلا. ورغم ذلك، فإن الدراسة تشير سريعا وعابرا، ومن دون توقف طويل، أو تعليق مسهب، إلى أن العنف المتبادل بين الطرفين، لا بد، سيؤدي، بمرور الوقت، إلى رفع مستوى التطرف في غزة أيضا. وتتعفف الدراسة عن القول إن الوضع الإنساني الفظيع، المفروض على الغزيين منذ عام 1967 كان كفيلا بأن يحولهم إلى وحوش كاسرة.
هذا الصنف من الدراسات، المقنع بعلميته الماكرة، والمتخفي خلف أسماء كبرى لجامعات ومراكز أبحاث، قد تكون نتائجه صحيحة، لكنها مجتزأة، وموظفة بخبث يستحق الإدانة والتشهير، خاصة أنها تستخدم لتبرير العنصرية الإسرائيلية المتزايدة. فالشعارات غير المسؤولة المعلنة، لم تعد تحرض على قتل العرب بشكل عام، وإنما تركز على الأمهات الفلسطينيات أيضا، والتخلص من الأطفال.
العنصرية أينما كانت لا يمكن تغليفها ببضعة أرقام، وقليل من الإحصاءات المتهالكة. النظر بعين واحدة بات يسمح بغض الطرف عن الكارثة الإنسانية في غزة التي لم تتسبب فيها «الجرف الصامد» أو «الرصاص المصبوب» أو حتى غيرها من العمليات الإسرائيلية القاتلة المحدودة في الزمان، وإنما هي نتيجة حتمية لممارسات يومية ممنهجة تجعل الحياة في غزة مستحيلة، وتضع ما يقارب مليوني فلسطيني أمام خيار واحد هو: انتظار الموت.
لم يغير في المعادلة المجحفة شيء أن يقول الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، عن غزة عام 2009، إنها أكبر سجن مفتوح في العالم، ولا حل عسكريا للقضية الفلسطينية. فالهدف النهائي ليس إيجاد مخارج إنقاذية، وإنما كسب الوقت وتمييع الحلول.
قنبلة غزة صناعة إسرائيلية 100 في المائة، فمنذ عام 1948 دفع الاحتلال بـ200 ألف فلسطيني لترك بيوتهم والهجرة إلى القطاع. وإسرائيل هي التي سرقت الماء، بعد ذلك، من تحت أرجل الفلسطينيين وأفرغت الآبار وتركت مياه البحر تحل مكانها، لتعاقبهم بالعطش ويباس الزرع وتصحر الأراضي، كما تحرمهم اليوم من نور الكهرباء والوقود وحتى الغذاء. إسرائيل تتحكم في كل ما يدخل ويخرج إلى غزة، من الإسمنت إلى حليب الأطفال.
حكمت إسرائيل بالمؤبد مع الجوع والعوز، ودون محاكمة، على مئات آلاف الناس، غالبيتهم من الشباب، فرضت حصارها المحكم عليهم في البر بإغلاق المعابر، وفي البحر بسد الأفق وحرمانهم من ثروتهم البحرية سمكا ونفطا، كما في الجو حيث طائراتها لا تترك سماء غزة. تريد إسرائيل بعملياتها البرية التي أعلنتها، إغلاق الأنفاق، وهذا بحد ذاته مروع، كأنما حياة الجحور باتت ترفا يتوجب تخليص سجناء غزة منه.
لا تشكل غزة سوى 1.5 من مساحة فلسطين التي قضمتها إسرائيل، في غفلة من العرب، وحشرت بها أكبر عدد ممكن من المشردين، لتجعلها البقعة الأكثر اكتظاظا في العالم، وجوعتهم، كما أنها لا تتوقف عن سكب النار على رؤوسهم، كلما سنحت لها الفرصة على مرأى من العالم.
مشكلة غزة ليست في «حماس» ولا «درباس»، ولا في أي فصيل فلسطيني، وإنما في إصرار إسرائيل العتيق والمزمن، على إبقاء هذه المنطقة حزام بؤس خانع، كي لا يتحول إلى طوق تمرد على حدودها، لكن النتائج جاءت عكسية تماما.
بمقدور إسرائيل أن تجتاح غزة كما فعلت سابقا، بإمكانها أن تقتل آلافا آخرين، وهذا، على مأساويته، ليس بجديد. متاح لإسرائيل أن تستمر في تركيع الفلسطينيين، فقط لأنها تخشاهم وتعرف أن الظلم لا يمكن أن يثمر شجرا، لكن المنطقة تتغير، والفوضى المجنونة التي صفقت لها وطربت، لن تقف عند حدودها.
صواريخ غزة اليوم، جزء من ترسانة الأسلحة التي أغرقت بها المنطقة عمدا من ليبيا إلى اليمن، طمعا في أن نبقى نتذابح إلى أن نختنق بدمائنا النازفة. ما يحدث في فلسطين ليس معزولا عن البركان العربي الجامح، وتهديد العرب والعالم بالعنصرية الإسرائيلية والمزيد من التشدد في الانتخابات المقبلة، و«داعش» على الطريقة الإسرائيلية، قد يؤثر في بعض قراء الصحف الغربية، لكنه لن يغير من المعادلات الجحيمية شيئا.
غدا تقف معارك غزة، وربما قضت إسرائيل على بعض الأنفاق وجزء من الصواريخ، لكن الزلزال لن يأتي على العرب وحدهم وإسرائيل دخلت مع إعلانها «الجرف الصامد» دائرة جرافات الربيع العربي التي لا تترك شيئا يصمد في طريقها. إنها مجرد بداية والآتي، لا بد، على سكان المنطقة بأسرهم، أدهى وأعظم، وعلى إسرائيل، إن كانت تملك شيئا من الحكمة، أن تتعظ، وتطلق سراح سجنائها الغزيين، قبل أن يتهدم الهيكل على الجميع.