منذ سنوات والسينما المغربية تطرح نفسها على مستوى مختلف من مستويات التعبير. مواضيعها وهمومها ومشاكلها وشخصياتها تختلف عن تلك التي تطرحها السينما اللبنانية أو المصرية أو الخليجية أو الفلسطينية، وحتى عن السينما الجزائرية التي تجاورها في أكثر من وجه.
بطبيعة الحال، لا تتساوى الأساليب الممارسة من قـبل المخرجين المغربيين ولا النتائج، لكن ما يجمع بين كل جهودهم سعيهم الحثيث لتقديم أعمال جديدة وذات هوية وطنية، حتى وإن لم تكن موضوعاتها دائمة الحديث عن قضايا داخلية، اجتماعية أو سياسية.
في العامين الأخيرين، سجلنا ملاحظاتنا على عدة أفلام شوهدت في المهرجانات العربية وغير العربية. كون السينما المغربية قريبة من أوروبا، وكون مخرجيها يحبـون التواصل مع الجمهور العربي خارج المغرب ساعد في هذا التوجه المزدوج ذي الفوائد المضاعفة. من ناحية ها هو المخرج يقدم عمله لجمهور جديد ومختلف في كل بقعة، وها هو الجمهور، على اختلاف مشاربه وثقافته، تتاح له أن يلم بجديد السينما المغربية.
خمسة أفلام مغربية لم يغمرها البعد الزمني بعد تقدمت خلال هذين العامين على سواها على نحو أو آخر، وهي «هم الكلاب» لهشام لعسري، و«داعا كارمن» لمحمد أمين بوعمروي، و«الصوت الخفي» لكمال كمال، و«سرير الأسرار» لجيلالي فرحاتي، و«جيش الخلاص» لعبد الله طايع.
لكل واحد من هذه الأفلام خصائصه الفنية، وهذا طبيعي جدا، لذلك فإن النتيجة ليست متساوية باستثناء أنها جميعا أفلام جادة فيما تنشده من طروحات ومواضيع. لكن ما يجمعها هو النحت في الزمن الماضي. أبطالها يتذكـرون ويعايشون ويندمون. لكل تجربته المختلفة مع الأمس وبعضهم لا يزال يحاول أن يحل تلك التجربة ليرتاح.
* الأمس المفقود
* في فيلمه الروائي الثاني «هم الكلاب»، يسرد المخرج هشام لعسري حكاية شخصيتين محددتين؛ رجل تائه في زمانه ومكانه. يبحث عن كيفية استعادة ماضيه، ومقدم برنامج تلفزيوني يلتقي به صدفة ويلازمه صوتا وصورة (فيلم داخل فيلم إلى حد) مسجلا يوميات هذا البحث الشغوف. حين يصل البحث إلى منتهاه فإن الحل لا يمكن أن يكون سعيدا كون ذلك الرجل المجهول الذي لا يذكر اسمه لن يستطع تغيير تجربته التي أدت به إلى الابتعاد عن أسرته.
حين يلتقي ذلك المسن بزوجته قبل نهاية الفيلم فإن اللقاء بمثابة فراق جديد، إذ أصبح التواصل صعبا، ليس بينهما فقط، بل بينهما وبين ابنه أيضا. ولم يعد هناك وقت للتواصل، فهي على فراش الموت. اللحظات الرائعة في هذا الفيلم تمضي سريعا ومنها اعتذاره لزوجته على السنوات التي ضاعت عليهما منفصلين.
مع أن بطل هذا الفيلم دخل السجن لأسباب سياسية، فإن الفيلم ليس سياسيا. هناك محاولة لإيجاد لحمة بين الموضوع ومحيط أكبر، لكن الفيلم يبقى فردي الاهتمام وبصريا لاهثا وراء تكرار وضع شخصيته وتصرفاتها ومناجاتها وللحوارات التي لا تنقطع بينها وبين المذيع التلفزيوني الذي قرر فجأة تحقيق هذا الريبورتاج عنه. الفكرة جيدة لكن مفاصلها غير منطقية. والتصوير على مدى يومين (حسب القصـة) تتداخله عيوب في التوقيت لم يكن ليلقي المرء بالا لها، لولا أن الفيلم مبني على التوقيت.
يداوم المخرج الاستخدام المتجدد لتقنية السرد ومعالجته الكلـية للموضوع، وما زال ماهرا، كما كان حاله في فيلمه الأول «النهاية»، في توزيع أفكاره. لديه التصور المناسب لعمل مختلف. لكن ما بدا قويـا في بصرياته في «النهاية» ينقلب بعد حين هنا إلى تداول لمنوال واحد يثير التعب. الكاميرا المحمولة تذكـرك بوجودها أكثر مما يذكـرنا المخرج بالسبب الذي من أجله نتابع حكاية رجل في بداية السبعينات من عمره يبحث عن عائلته وعبرها عن حياته الأولى.
في المقابل، نجد فيلما لمخرج جديد آخر هو محمد أمين بوعمروي الذي أنجز دراما اجتماعية متميـزة وجيـدة. الفيلم بعنوان «وداعا كارمن». تقع أحداثه في مطلع السبعينات، وتدور حول صبي في الـ13 من العمر، بلا أب أو أم (تركته والدته ورحلت إلى إسبانيا لتنضم إلى زوجها الثاني على أن تطلبه للسفر إليها ولم تفعل). يعيش مع خاله القاسي والمسرف في الأذى، الذي يسرق ما تبعثه أم الصبي إليه ليشرب الخمر به ويعاشر النساء. يتعرف الصبي على جارته الإسبانية التي ستصحبه إلى صالة السينما قبل أن تتأزم الأحداث ليجد الصبي نفسه وحيدا من جديد.
الفيلم مبني على حكاية وقعت أحداثها مع المخرج حين كان بعمر بطله عمار (أمان الله بن جيلالي) لكن لا نعرف متى يبدأ الخيال أو متى ينتهي الواقع. المؤكد أن السيناريو يمزج بين الاثنين جيدا ويبلور أحداثا تتطور بعدما يتعرف الصبي على امرأة إسبانية، اسمها كارمن (باولينا غارفيز) تشرف وشقيقها على صالة السينما في البلدة، فإذا بها تعوض، ولو جزئيا، الحنان الذي يفتقده عمـار وعبرها تبدأ عادة مشاهدة الأفلام الهندية. إذ تتطور الأحداث هناك، قدر منها رتيب ويدور في مكانه، لكن المخرج لديه إلمام جيد بالتفاصيل والبيئة الاجتماعية وإدارة الممثلين. لا يعمد إلى توفير مشاهد يؤطرها بشكل خاص، بل ينصرف لمعالجة متوازنة لتحقيق فيلم من تلك الذاتية الصادقة وذات الدلالات المختلفة. الحكاية المعروضة مسرودة على خلفية سياسية (مسيرة استرداد الصحراء الغربية من إسبانيا في ذلك العام) ولو أن العلاقة بين هذا الحدث وارتباط بطله بكارمن يبقى ضمن الاستخدام المحدود.
* التاريخ الشخصي
* رحلة أخرى إلى التاريخ غير البعيد نجدها في فيلم «جيش الخلاص» لعبد الله طايع. إنها عن ذكريات الكاتب المتحول إلى الإخراج القلقة حين كان صبيا يعيش في المغرب قبل أن يبحث عن حريته الشخصية في أوروبا.
الفيلم جريء لأنه يطرح موضوع المثلية الجنسية من ناحيتين: من ناحية الموضوع ذاته الذي ما زال شائكا في مجتمعاتنا العربية بطبيعتها الخاصة، ومن ناحية التجربة التي عايشها كونه مثليا، فهو لا يتناول حكاية واحد من الناس، بل حكايته الشخصية.
لكن هذه الجرأة محسوبة كون الفيلم سينمائيا يبقى بلا تطور للدراما داخل ما هو معروض. الكاميرا تحاول أن تجعل النظرات تنطق، وتبقى على المكان بعد أن ينجلي الحدث عنه. مرة ومرتين وثلاثا ثم تدرك أن هذا التوجـه لا يمكن أن يعوض الحاجة إلى مزيد من الأحداث. لا يستطيع أن يبقى وجدانيا وتأمليا وفي الوقت ذاته مثيرا للاهتمام. ليس هناك من تشابك يُذكر للمواقف. هناك مشهد عراك بين والديه ومحاولة عبد الله وأخيه الكبير اقتحام الغرفة لإنقاذ والدتهما. حين يفعلان نسمع الأب يقول: إنه لم يضربها. المشكلة هي أننا لا نرى ذلك. المخرج لا يحاول سرد حكاية كاملة، بل مجرد دوره فيما يدور الذي لا يزيد كثيرا عن مشاهد لوحدته ونظراته وشغفه بذكورية الآخرين.
أحد أبرز سينمائيي المغرب هو جيلالي فرحاتي. لجانب أنه أمضى فيها أكثر من ربع قرن، لا يزال يواصل إطلاق أعماله المثيرة للاهتمام. للأسف هي، في السنوات الأخيرة، ليست متساوية فنيا، لكن ما يعوض ذلك إلى حد هي أنها تبقى كاشفة وذات ملكية سرد صحيحة لمواضيع تمزج بين ما هو خاص وما هو عام.
فيلمه الجديد هو «سرير الأسرار». دراما اجتماعية حول امرأة على جثـة أمها وتبدأ باسترجاع ذاكرتها حول الأيام العصيبة التي عايشتها مع والدتها حين كانت لا تزال صغيرة. بعض اختلافه عن أفلام المخرج السابقة يعود إلى أنه عادة ما كتب سيناريوهاته مباشرة للسينما لكنه هنا اختار رواية تتحدث عن امرأة تعايش ماضيها المستعاد وصولا للحظة الحالية.
هناك الكثير مما تكشفه هذه المرأة لنا التي أخطأت في حياتها وتعيش الآن لحظات الندم حتى الثمالة. تدرك كم جنت على ابنتها، وهذا واقعي وجيد، ويصور المخرج التلاحم العاطفي المخرج ببراعة. حين يعود بنا في «فلاشباك» إلى الماضي نستشف شخصية الابنة، فإذا بها فتاة غير غاضبة على تاريخ حياتها وعلى والدتها، بل قادرة على فتح صفحات الأمس بحنان ورقـة لتعاين وتتذكر وتمضي.
للأسف للفيلم رتابة لم نعتدها في أفلام جيلالي فرحاتي من قبل. كذلك فإن العرض القائم هنا على فتح صفحات التاريخ والفصل بينها وبين الزمن الحالي بمشاهد للابنة وهي تمر في الأزقة وتتوقف عند جدران الأمس وأبوابه، قبل أن يواصل الفيلم رحلته الاستعادية للأمس، ليس منوالا جديدا. المشكلة هي رتابته التي لا تصنع منه أكثر بكثير من مجرد انتقال بين فترتين من دون حدوث ما يكفي في الفترة الحالية، مما يخلع عن الفيلم بعض ما يحتاجه من حدة.
رغم ذلك، هذا عمل له جو خاص. يعمد إلى معالجة عمل روائي تبرز فيها الحالة الإنسانية ولو على نحو قديم التداول. يتصاعد الفيلم من نصف ساعة أولى بطيئة وتقليدية إلى نصف ثانٍ أكثر إثارة للاهتمام وبحبكة أثخن مما سبق.
* حدث ذات مرة
* الأكثر اختلافا من بين كل ما سبق هو «الصوت الخفي»، الفيلم الأول لكمال كمال، ولو أنه، مثل «سرير الأسرار»، يحكي قصـته الأساسية عبر مشاهد استرجاعية (فلاش باك).
يبدأ «الصوت الخفي» بحكاية فتاة (آمال عيوش) في الزمن الحاضر تترك البلدة إلى المدينة وتحل عند صديقة لها تعيش في مبنى مهجور (لا تبرير لذلك)، وفي أحد الأيام تتعرض لاعتداء، ويجري خلاله تحطيم الكمان الذي تعزف عليه وضربها، مما يترك آثارا واضحة على وجهها. تجلس إلى رجل مسن (أحمد بن عيسى) يعيش في مدخل المبنى وذات يوم تستمع إلى حكايته. ندلف من هنا إلى الماضي عندما يحاول موسى (الذي يسرد الحكاية) اختراق مجموعة من الناس (بعضهم من المناضلين الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي) للحدود، للتواصل مع مؤيدي الثورة في المغرب والحصول على السلاح منهم. المهمـة تعترضها مصاعب عدة، بما فيها وجود عدد من المعاقين الذين لا علاقة لهم بالغاية العسكرية المنشودة. هناك شاب يود إيصالهم إلى الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة المنصوبة على الحدود بين المغرب والجزائر.
من المثري وجود شخصيات وحالات جديدة وغير مطروقة تخلق حكاية لم نر مثيلها على الشاشة، لكن قدرة المخرج البصرية تطغي على قدرته سرد روائي محكم.
يطرح الفيلم الكثير من الخطابات السياسية، لكنها مقطوعة دوما بسقوط أصحابها قتلى أو مصابين، مما ينقذ الفيلم الوضع غير المطروق (تصل المجموعة - بخلافاتها - إلى المنطقة المزروعة ألغاما، وهي ما زالت تتناحر)، ومكان وقوع الأحداث (غابة وثلج)، والعين المشتغلة على التفاصيل الشخصية مع أداء لا بأس به من الجميع.